«الصحراء وطني لأنها وطن الذين لا وطن لهم. هي وطن الرجال الحقيقيين المتحررين من القيود» هذا هو ما توصل إليه إريك شميت، وهذا ما أوضحه من خلال سرد رحلته في (ليلة النار)، الليلة التي عاشها ضمن ليالي رحلة قضاها في صحراء الجزائر مع صديقه جيرار من أجل اقتفاء آثار القديس شارل دو فوكو، وذلك من أجل كتابة سيناريو فلم يصور سيرته، ومحاولة معرفة أسرار تحوله من ذلك العربيد، محب الحياة وملذاتها إلى ذلك الروحاني الصوفي. رحلة بحث عن سر هذا الرجل الذي أراد العيش بين الطوارق لا ليغزو أرضهم ولا ليبشر بالدين المسيحي، بل من أجل أن ينهل من حكمتهم، لينقل إلى العالم شعرهم، أساطيرهم، قوانينهم، ولغتهم. انضم إلى هذه الرحلة مجموعة من الرحالة والمستكشفين الفرنسيين تتنوع اختصاصاتهم العلمية، وأفكارهم، وأهدافهم. منهم المؤمن، منهم الملحد، ومنهم من هو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وتمثل هذه الرحلة صورة مصغرة من رحلة الحياة، فالحياة رحلة نواجه خلالها أناسا تختلف مذاهبهم، وأفكارهم، معرضين للتعايش معهم ومرافقتهم. ولكن ماذا عن رحلة إريك شميت؟ هذه الرحلة التي صادف أن تكون وهو في سن الثامنة والعشرين، في ذروة جموح الحياة، تملؤه الأسئلة، فيلسوفاً ملحداً ظاهره الاقتناع والطمأنينة، وباطنه بركان من القلق. مرحلة يحقق فيها الكثير من النجاحات المهنية التي لا تزيده إلا بعداً عن ذاته كما يقول. ابتدأت الرحلة من تمنراست أقصى جنوبالجزائر، حيث بنى شارل دو فوكو أول منزل فيها عام 1905 يرجو البعد بقدر الإمكان، يبحث عن منطقة نائية تناستها الحضارة الفرنسية. امتدت الرحلة لعشرة أيام في صحراء الطوارق نحو قمم جبل تاهات، قمم الأكافو، السرقاط والأسكريم، يكتشفون من خلالها عبقرية الطبيعة. وخلال هذه الرحلة دار بين أعضاء الرحلة الكثير من الحوارات العميقة حول العلم، الإيمان، الإلحاد، حول الحضارة والإنسانية. وفي إحدى ليالي هذه الرحلة تاه إيريك شميت في الصحراء بلا ماء ولا زاد، يملؤه الفزع، وتنال منه برودة ليالي الصحراء، دفن نفسه تحت رمالها طلباً للدفء يتأمل السماء والنجوم والخوف يتصاعد داخله، والأسئلة تلح في رأسه، كم يستطيع الإنسان أن يبقى بدون شرب؟ هل سأتعفن هنا بعد الموت؟ بدأ الإعياء يتمكن منه، شعر بأنه ينفصل عن هذه الأرض، يرتفع شيئاً فشيئاً وفي لحظة، اجتاحه سلام داخلي وشعر باطمئنان غريب وكأن الزمن أنهى تغيير جلده، فيصف هذا الإحساس ويقول: فرح. لهب. تشتد القوة وأنا أسلم نفسي إليها، تستولي علي وتمزق جسدي وروحي، أتوهج وأقترن بالنور. تجربة توصل من خلالها إلى أن الإيمان يختلف عن البرهان، فالبرهان شيء بشري والإيمان هبة من الله. والقلب الذي يدرك وليس العقل. هذا هو الإيمان بالله، الله مُدرَك بالقلب وليس بالعقل، تجربة وصل من خلالها إلى أننا «إخوة في الجهل وليس الإيمان. وبهذا الجهل الذي يجمعنا سنتمكن من أن نتسامح مع المعتقدات التي تفرقنا». ويعي شميت أن هذه القصة وإن كانت تهز بعض البشر فإنها لا تقنع أحداً، فالحجج العقلانية وحدها لها القدرة على التوصل إلى القبول وليس التجارب الروحية. ماذا تعلم إريك شميت من الصحراء ومن الطوارق؟؟ تعلم شميت أن الطارقي حر، يعلم تماماً أنه ليس هناك ما يستحق التشبث به، تعلم حكمة قبول كل ما هو زائل. الطارقي يعلم أن كل شيء يبلى، أما الذي لا يبلى أبداً هو هذا الفضاء الواسع الرحب. تعلم أن الطوارق لا يتحدثون عن أعمارهم! فحياتهم ليست مثقلة بالأرقام. تعلم منهم كيف يميز بين فرط النشاط وسعادة الوجود فيقول: تحركت فعلاً أكثر مما استمتعت. وتراكمت علي المشاكل وأنا أهمل الاستمتاع بالكنز البسيط: أن أحيا. تعلم أن الصحراء هي الوطن، هي الوجود الحق، فمن لا يعرف الصحراء كيف له أن يتأمل؟ كيف له أن يعرف معنى الإحساس بالحرية؟ فحياة المدن تشعر بالاختناق بين ملايين البشر والأشياء. ومن بعد هذه الرحلة القصيرة في مدتها العميقة بكل تجاربها والتي خرج منها إيريك شميت بالإيمان، وخرج منها عالم الجيولوجيا توماس بكم كبير من المعلومات والملاحظات والأسماء، وعالم الفلك جان بيير بتجربة رؤية النجوم على حقيقتها وتتبع تاريخ الكون واختبار دقة معلوماته، نجد أن الرحلة في الجهة المقابلة كانت لمارك ومارتين مختزلة في مسار من العقبات، حملا معهما ذكريات كثيرة ولكن فقط عن الجزع، العزلة، غياب البشر، العطش وضربات الشمس. وهذا هو حال من يسير في هذه الحياة ضمن المألوف، حال من يهاب التجربة، والتأمل، ينشغل بالثرثرة عن الإنصات للصمت والسكون، فهؤلاء لا تنقش في دواخلهم الحياة شيئاً، ولا تفيدهم التجربة بشيء، هؤلاء لا تحمل لهم الحياة سوى البؤس والرتابة. ليلة النار – إريك إيمانويل شميت – ترجمة لينا بدر – مراجعة: نسرين السنوسي. دار مسكيلياني الطبعة الأولى 2018 ** **