لا يوجد أسوأ من حظ الرحالة الإنجليزي (تشارلز مونتاجو دوتي) الذي زار الجزيرة العربية ما بين 1876/ 1878، عاش دوتي طفولة بائسة وصعبة جداً، وحياة مليئة بالتناقضات دفعته أن يفجر مواهب عديدة وحافلة بالإنجاز على المستوى العلمي والأدبي سواءً من شعر أو القصة، إضافة إلى أعمال أخرى شيقة وغزيرة بالمعلومات استنتجها من خلال رحلاته ما بين أوروبا والمشرق العربي. لم يُعرف لدوتي أي ميول منذ صغره كما يزعم زميله (س كوكربل) في كلية كايوس التي درس فيها، يقول س.كوكربل: (كان دوتي خجولاً، يوم أن كان طالبًا، كما كان عصبيًا ومؤدبًا جداً، لم يكن دوتي يعرف المرح إطلاقاً، وأنا لا أذكر أنه كانت لديه حاسة أو ذوق أدبي أو أي ميول من أي نوع كان). حاول دوتي أن يقوم في رحلة إلى بلدان المشرق، بعدما أنهى رحلات عدة في أوروبا، وقرر أن تكون الوجهة إلى مصر، ربما أتت هذه الفكرة أو الاختيار بعدم قناعته بكتابات ووصف من سبقه من الرحالة والمستشرقين إلى مصر. وصل دوتي إلى مصر في عام 1875م وأنجز أول رحلاته ما بين صحراء سيناء وصولاً إلى البتراء، وسجل دراساته ومشاهداته وانطباعاته عنها، وحينما كان يقيم في البتراء سمع عن أهمية مدائن صالح وحاول بكل السبل أن يحصل على تصريح سفر كي يسافر إلى مدائن صالح عام 1876م رغم أن الظروف كانت مضطربة وفي أوج الصراع القائم بين الصرب والدولة العثمانية على خلفية انتفاضة الطوائف المسيحية ضد العثمانيين، لذا لم يصرح لأي من المسيحيين أو غير المسلمين بالسفر أو التنقل بين الأقطار العربية (دمشق، بغداد، نجد، الحجاز). حاول تشارلز دوتي جاهداً أن يحصل على هذا التصريح لكي يسافر إلى مدائن صالح ليدرس جيولوجية الأرض ونقوشها، ولكن رفض هذا الطلب من قبل والي دمشق، وشدد الوالي على ضرورة المنع، ومن خلال هذا المنع قدم مذكرة ربما تكون محاولة أخيرة عن طريق إشراك قنصلية بلاده ولكنها تجاهلت هذا الطلب وهذا ما أغضبه، وأصر أن يسافر متنكراً مع أقرب قافلة من دمشق إلى الحجاز. بالفعل تواطأ دوتي مع سعيد الكردي الذي يُعَدُّ أمير القافلة وانطلقت القافلة إلى الحجاز، ولم تمض الأيام الأولى في الطريق إلا أن البعض اكتشف أمر هذا الغريب الذي يجاهر في (نصرانيته) متوسطاً القافلة، قافلة الحج الشامي، ويعطي أمثالاً ومفارقات وحجج ما بين المسلمين والنصارى، حيث تعرض بعد هذه المجاهرة للضرب والتوبيخ من قبل البعض، ولكنها لم تؤثر عليه بل ازداد الحديث والهذر إلى أن وصلت القافلة إلى مدائن صالح، وحينما وصلت القافلة تخلف عنها دوتي لكي تواصل مسيرها إلى مبتغاها. أقام هذا الرحالة هناك وأصبح يتنقل ما بين مدائن صالح والعلا وخيبر وتيماء وحائل والقصيم ويدون ويرسم النقوش السامية والآرامية والكنعانية واللحيانية والثمودية، ووثق العديد من هذه النقوش ورسمها رسماً دقيقًا، حيث كان يمتاز بدقة دراسة لأي نقش أو شاهد، لذا شكل دوتي علاقات واسعة بحيث يمضي أكثر مدة زمنية بهذه المنطقة الغنية بالنقوش والآثار والتي تُعَدُّ حلم المستشرقين، رغم أن الوصول إليها صعب وربما يكلف المستشرق أحياناًً حياته. تعرض دوتي خلال هذه الأعوام التي أمضاها في هذه المنطقة للتجريد والضرب والإهانة، وكاد في ذات مرة أن يُقتل حينما كان بضيافة أمير حائل بسبب وقاحته ومجاهرته بالنصرانية، وشتم كل من يخالف معتقداته، رغم أن علاقات دوتي كانت واسعة مع الشيوخ والقبائل وبعض الأمراء، ولكن لم تكن على أطيب حال بل كانت العكس، بسبب سوء تصرفه. ربما كان للحظ دور كبير في هذه الرحلة التي ربما لم توفق على الصعيد الشخصي، بعكس الصعيد العلمي والعملي، حيث قدم دوتي مخطوطًا ضخمًا يصف فيه مشاهداته وانطباعاته، وهذا المخطوط يحمل في طياته العديد من الدراسات الجولوجية للأرض والفوهات البركانية الخامدة في الجريرة العربية، إضافة إلى النقوش والشواهد والعديد من القصص والطرائف، وحينما عاد من هذه الرحلة الطويلة لسوء الحظ رفضت لجنة التقييم في أحد الجامعات هذا الكتاب، وعرض أيضاً على بعض دور النشر الإنجليزية التي امتنعت عن طباعة هذا الكتاب، وصنف الكتاب كعمل لا يليق به أن ينشر. وبعد مرور أكثر من أربعة عقود قرأ (توماس أدوارد لورنس) هذه المخطوطة بالمصادفة وتعاطف تعاطفًا كليًا مع دوتي وتكفل بطباعة كامل الكتاب، في بداية العشرينات، ويعتبر هذا الكتاب كقيمة ألف ليلة وليلة ولكن في زمن مختلف وشخصيات مختلفة، ولو أن الكتاب يحمل العديد من الملاحظات لكنها تبقى كملاحظات لا تقلل من قيمته. ** **