ينبغي علينا معاودة التفكير بطريقةٍ نقدية لكل شيء. بكل ما يتصل بإنسانيتنا، بكل ما يتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في تعقيدات السيرورة الكونية، لأن النقد فطرة راسخة ومتجذرة وأصيلة في الخليقة، ولأن الشيء الوحيد الذي لا يقبل النقد هو اللاشيء، باعتباره عدمًا مجردًا من الروح والمعنى والقيمة! إننا جميعًا نمارس النقد، حتى ولو أنه لا يبدو واضحًا وجليًا في سلوكنا، ولكننا نمتعض، ونعترض، ونستاء، ونقوِّم المائل، ونصوِّب الخطأ، حتى عندما نرفض النقد، فإننا بشكلٍ أو بآخر نمارسه دون أن نشعر. لذلك فإن الشيء الذي لا أفهمه، هو الإسقاطات التي تطال النُقاد على سبيل الاستنقاص من جهودهم، باعتبارهم مثلًا من مبدعي الدرجة الثانية، وأنهم يكتسبون شهرتهم أو يستشعرون وجودهم من خلال نقد الأعمال الأدبية الشهيرة، والتقليل من قيمتها وجودتها الفنية. وعلى سبيل المثال في أمسية رواد ونقاد التي نظمتها وزارة الثقافة، ذكر الروائي الكبير عبده خال بأنه لم يقرأ لناقدٍ قط. وفي جنبات حديثه تحدث عن ذلك الوسم الذي أنشأه عبر (تويتر) ليكتب فيه هواة القصص القصيرة جدًا، ثم قال بأنه اطلع على ما كتب فيه وفرز منه عددًا من الكتابات العظيمة التي تستحق النشر. وهنا كان خال يمارس عملًا نقديًا دون أن يشعر، إذ أن الدافع النقدي، أو الناقد الخفي الساكن في أعماق كل واحدٍ منا، هو الذي جعله يُقيّم تلك الكتابات، ويفرز القصة القصيرة العظيمة عن الأقل جودة. وفي حوارٍ مع الروائي ميلان كونديرا، مارس نقدًا حول الإيجاز والتكثيف قائلًا في رده على أحد الأسئلة: «إن إدراك تعقد الوجود في العالم يتطلب، فيما يبدو لي، تقنية الإيجاز والتكثيف، وإلا سوف تسقط في فخِ تطويلٍ لا نهاية له. رواية رجل بلا صفات واحدة من روايتين أو ثلاث أحبها أكثر. لكن لا تطلب مني أن أعجب بطولها الهائل غير المنتهي. تخيل قصرًا ضخمًا للغاية، بحيث لا يستطيع المرء تطويقه ببصره، تخيل عزفًا رباعيًا (كواتيور) يستغرق تسع ساعات. إن ثمة حدودًا أنثروبولوجية، مثلًا حدود الذاكرة، لا يجب تجاوزها. يتوجب عند فراغك من قراءة رواية ما أن تكون قادرًا على أن تتذكر البداية، وإلا غدت الرواية بلا شكل، وصار وضوحها المعماري غائمًا». حسنًا ها هو كونديرا يمارس النقد أيضًا، لأن ثمة رؤية تقابلها رؤى أخرى، ولأن لكل شيء عدة زوايا مختلفة للنظر، ولأن المعنى لا يمكن أن يكون بأي حالٍ من الأحوال واحدًا. إن الناقد ليس ذلك الذي يعامل النص بصرامة الأداة، وجمود النظريات، ومسطرة العالِم. ليس هو ذلك الذي يحاسبك على الحبكة وتقنياتك السردية فحسب، بل إنه ذلك الذي يستطيع استقراء العمق الإنساني المتصل بنا في نصٍ ما، وهو الذي يكشف خبايا السطور، والمعاني التي لا يستطيع قارئ بسيط مبتدئ أن يكتشفها. كلنا نُقاد. وشئنا أم أبينا فإن ثمة ناقد خفي يعيش في أنفسنا. ** ** - عادل الدوسري [email protected]