في عصر ال«تويتر» وال«سناب شات» تصدمنا أحيانًا أخبار لا يمكن تفهم تفاصيلها إلا من باب شهوة البحث عن الشهرة، وربما ما يأتي معها من مردود مادي ومعنوي. كنا نقول «من شابه أباه فما ظلم»، و«العرق دساس»، و»الطبع يغلب التطبع»؛ نعني أننا نؤمن بأننا نرث انفعالاتنا من ذوينا، ونتعلم تصرفاتنا من الأقربين. وهذا هو المتوقع مجتمعيًا. أما الآن فقد دخل مؤثر أخطر حيث اكتساب الشهرة بكثرة المتابعين يأتي من باب غير المألوف والغرائبية وتسويق أي منتج. التجارب العلمية تؤكد أن تفضيلاتنا في استحسان مذاق طعام أو نكهة بعينها تبدأ في التكون ونحن أجنة في بطون أمهاتنا حيث يتسرب إلينا ويبرمج فينا ما يتخيّرن في طعامهن من مذاقات. ولذا يفضل اليابانيون الصغار والكبار سمكهم طازَجًا ونيئًا مع واسابي يفتح الخياشيم، ويفضله الكوريون مطبوخًا في كثير من الثوم. ويحب العرب في الجزيرة حليب النوق والقهوة بالهيل، والإيطاليون البيتزا بالجبن، وأهل شرق المتوسط الملوخية، والأرمن البسطرمة، والفرنسيون الضفادع والبزاق! ويستمتع الصينيون بأطعمة تبناها مذاق العالم، وأخرى خاصة لا يتقبلها الآخرون كالحيات والكلاب والفئران ونكهة فاكهة «الدوريان» المزعجة. وأهم من مذاقات الطعام أو مواصفات الجمال الجسدي يأتي استقاء الصغار لآرائهم عن المقبول وغير المقبول من التصرفات، حسب تصنيف ما تصر عليه أو تتسامح معه العائلة وما ترفضه قطعيًا. فالتنشئة الحميمة في مرحلة التأسيس تشكل الشخصية وكذلك أساس وجهة نظرنا حيال العالم والتعامل مع أنفسنا والآخرين؛ فما يراه آباؤنا صحيحًا ننشأ على تقبله. وما يرونه مرفوضًا نرفضه نحن أيضًا؛ ولو إلى حين! نتعلم ممارسات الأبوين والأسرة وتبقى المكون الأساسي لوعينا، والمرجع الأول لما يصح أو لا يصح من انفعالاتنا واعتقاداتنا. على الأقل هذا ما يحدث في البدء؛ حتى يتبلور لنا - بالتجربة والاحتكاك بالآخرين ومعايشتهم- رأي آخر يصقل ويشذب أو يغلف أو حتى يدمّر ويلغي البرمجة الأولى. وهذا بالضبط ما حدث للرسل جميعًا منذ الصغر تأملوا وفكروا بذهن مرن تفاصيل معيشة ومعتقدات قومهم، ثم خالفوا ورفضوا من ممارسات آبائهم ما رأوه لا يتفق مع المنطق المستنير بروحانية وحي أعلى توضح الصراط المستقيم. وكونه صراطًا يدل ضمنيًا أنه خط مسيرة مستمرة نحو الأفضل وليس نقطة وصول يتحجر فيها الرأي ويتقوقع الفكر ويتوقف التطور. مع الأسف، هذه المرونة الفطرية في ذهن الطفل التي هي نعمة من الله قد تنقلب إلى نقمة حين تتسرب إلى مناهل التجربة تأثيراتٌ تسمّمها، وقد تسبب توقف قابلية النمو في فكره، أو تمنعه قسرًا من استخدام قدرته للتمعن والتفكر، وتبقيه أسير أطر متخلفة، إن لم تكن موجهة بقصد ترسيخ أوضاع مصالح فئات خاصة وخدمتها، مستغلة استسلام الممنوع من التفكر. ولا أعرف أيها الأشد في تشويه التنشئة: ممارسة التطرف والعنصرية التي تولد إرهابيي المستقبل، أم تقبل الاستضعاف أسريًا ومجتمعيًا والاستغلال والظلم الذي يولد الناقمين على المجتمع، أم التهاون المجتمعي الذي يرسخ سيئ التصرفات كمتوقع طبيعي. كلها ممارسات قاصرة وقصيرة النظر تنتهي بإحراق احتمالات المستقبل! واستجدت عولمة الغرائبية فزادت الطين بلة. الأغلبية العظمى من الآباء والأمهات أسوياء لا يتمنون إلا الخير لأولادهم، ويؤلمهم أن الأمر ينحرف إلى مباغتة الشباب لهم بما يحزنهم. والانحراف يحدث بصورة تدريجية متصاعدة الخطورة قد تمر على أولياء أمور النشء والمجتمع دون ملاحظة، خاصة حين هم من الطيبين الواثقين، تركوا الأمر لمن ينيبونه عنهم في القيام بمسؤولية التوجيه، ولمن لم ينيبونه فتسلل لموقع التحكم. وننتهي بنشء ملتبس النفسيات والمعتقدات والممارسات نتيجة المرور بتجارب سلبية مؤلمة؛ مثل اعتداء موثوق به كجار أو قريب على صغير، أو اغتصاب بالغ لطفلة قريبة، أو تعنيف من قريب أو إهانة كرامة من مسؤول رسمي كمدير أو مدرس غير مؤهل تربويًا. والأسوأ تأثيرًا ارتباطهم بعلاقة حميمة بمن يحاصر فكرهم أو يفتح أمامهم باب شر يضيعهم؛ فيتنطعون إلى حد تحليل التخريب والإرهاب، أو يهربون إلى الإدمان أو الشذوذ أو التخريب. هكذا يتضاعف الخطر حين تتسلل إلى مناهل رأي النشء تأثيرات من مصادر صعبة المتابعة وغير مضمونة الإيجابية؛ زملاء اللعب، والمعلمين المؤدلجين سياسيًا أو عقديًا ومناهج التعليم الخفي، وإيحاءات البرامج المرئية بثًا في الفضائيات، وما يدس في أذهان النشء عن الخير والشر، والمتعة والتأجيج والمرغوب والممنوع. ومع انتشار وسائل التواصل المباشر أصبحت كل تقليعة يمارسها مشهور ما قابلة لأن يقتدي بها الشباب في بحثهم عن تقبل أنفسهم. أكبر نعمة من الله هي قدرة الفكر ومرونة ذهن الطفل وقابلية الناشئ لتعلم الجديد. ولكنها كسكين ذات حدين قد ينتفع بها وقد تنحرف فتقطع أواصر المنطق وعلاقة الشباب بالمجتمع السوي. الآن وقد ترك المجال مفتوحًا لكل من استطاع تسجيل شريط مرئي لنفسه دون أي التزام بمحتوى ما يعرض لجمهور المتابعين من سلوك غير مقبول أو تسويق لمنتجات ضارة أرى أن الوقت قد حان لتقنين يضبط شهوة الظهور والتكسب التي وصلت للانفلات.