نواصل النقاش في هذه الحلقة ضمن المحور الثالث حول الكم اللازم للتعلم الناضج - الناجح في اللغة الأم - الأولى، ونستعرض هنا (ما الذي تقوله وزارة التعليم وتطبقه فعلاً في الميدان التربوي؟)، وهو استكمال للمحورين السابقين اللذين كانا: الأول: ما يقوله التنظير العربي، ويعتمد بطبيعته على الملاحظات العابرة. الثاني: ما تقوله اللسانيات التطبيقية الحديثة (كمًّا وكيفًا وإجراء دراسات وبحوث ميدانية). إن الحديث عن هذا المحور لا يخلو من الذاتية والانطباعية لأنني لم أقم بدراسة مستقلة؛ إنما كتبت هذه المقالة بوصفي تربويًا مهتمًا وولي أمر وأحد الذين شرفوا بالعمل في وزارة التعليم، وكان لي دور في محاولة التطوير في مناهج اللغة العربية. كما قد يكتنف هذا النقاش شيء من (السياسة) بحكم أن الوزارة تحت قيادة من أعمل تحت إدارته حاليًا ومن عملت معهم سابقًا؛ فهي مثل الشهادة الذاتية على النفس والزملاء والمديرين المحفوفة بالمخاطرة والتحيز. والذي لا تخطئه العين في تعامل الوزارة مع اللغة العربية ومناهجها أنه لا يوجد انعكاس واضح للمفاهيم اللسانية التطبيقية التي أشرت لها عبر المقالات السابقة وسأشير إلى بقيتها في الحلقات المقبلة على الرغم من أن تجديد المناهج جاء -كما أعلم- نتيجة إلحاح فريق من الزملاء والأساتذة وحماسهم لتطبيق المناهج والنظريات الحديثة التي درسوها في الغرب قبل ما يزيد على السنوات العشر! لكن ربما تركّز الجهد على المنهج التكاملي بدل المقررات المجزَّأة. وقد قمت بتصفح بعض المقررات والكتب الخاصة باللغة العربية في المدارس فوجدتها لا تزال غير قادرة على الفكاك من النحو القديم وتأثيره في التعليم، وهذا طبيعي من أجيال تعلمت عن طريقه ولا يوجد منهج غيره متاحًا في العربية. ولا أعلم هل ترتيب الموضوعات يسير بنفس ترتيب موضوعات النحو أم بحسب ترتيب الاكتساب الطبيعي أو التعلم اللغوي؟ ولتوضيح الفرق بين الترتيب الطبيعي والترتيب النحوي نمثّل بالاستدراك والإضراب الانتقالي والاستثناء والتعليل مثلاً بالأدوات (لكنْ، لكنّ، إلا أنّ..، على الرغم من) فالمتعلم يحتاجها تطبيقيًا في المراحل الأولى من التعلم؛ لكن المقررات عادة تتحدث عنها متأخرًا ومفرقة -إن أشارت إليها- لأن التنظير النحوي يصنّف الأدوات تبعًا للإعراب النحوي ويجعل الاستثناء متأخرًا، والاستدراك في بعض أداته مع لكنّ (أخت إنّ). بل لو تتبعنا كيف نُعلّم فعل الأمر لوجدنا أنه تعليم يقوم على الإعراب لا على الاستخدام التداولي للأمر والتهذيب فيه وغيره مما لا يُغفل في المناهج الحديثة. فنحن كمن ينشغل بدهان البيت الخارجي على حساب بنائه ومتانة تأسيسه؛ المهم عندنا هو كيف يراه الآخرون بثوبه الخارجي! ولا يلتقطوا خطأ إعرابيًا! وقد حاولت الدخول لموقع الوزارة للتعرف على طبيعة المنهج والنظرية التي بُني على أساسها المنهج الذي لم يلاقِ قبولاً في أوساط المستفيدين (الآباء والأمهات والمختصون وكثير من المعلمين الذي التقيتهم) فلم يُسمح لي بالدخول إلا بعد التسجيل، على أية حال ففي مقدمة موجَّهة للأسرة من أحد كتب (لغتي الجميلة) نطالع النص التالي حول الهدف من تعليم المقرر: «وهو اكتساب الأبناء رصيدًا وافرًا من الألفاظ والأساليب اللغوية الفصيحة التي تمكّنهم من الفهم الصحيح لآيات القرآن الكريم ونصوص الحديث الشريف والتراث الإسلامي، واكتسابهم القدرة اللغوية التي تعينهم على الفهم والإنتاج اللغوي السليم» فالهدف واضح هو الفهم الصحيح للتراث الديني لكن لا يوجد أي إشارة إلى ماهية الرصيد الوافر وحجمه!! ثم يتلو الفهمَ الإنتاج السليم. ولو بحثنا عن المفردات والتراكيب اللغوية التي يعتني بها المنهج بناء على الأدبيات العلمية التي طرحناها في المقال السابق فلن نجد أي إشارة حول العدد أو الماهية! ولن نجد صدى لأساس لغوي مثل الشيوع أو الاستخدام أو الفائدة في المفردات والتراكيب المستخدمة ما عدا أنها من التراث الإسلامي على الرغم من أن هناك مشروعًا قامت به الوزارة مع مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية وصرفتا عليه مبالغ ليست قليلة لجمع مدونة لغوية وشكّلت له فرق عمل كبيرة إلا أن انعكاس المشروع في المناهج والمقررات لا يظهر لي بشكل يتناسب مع الزخم العلمي له باستثناء المعجم العربي للطلاب، فلعل الوزارة توضح أن كانت خافية لي وظاهرة لغيري. أعتقد أن الوزارة ركّزت على المبادئ التربوية في التأليف والتصميم مثل التدرج والسهولة وغيرها وأغفلت المبادئ والأسس اللغوية. الأمر الآخر الذي يجده المطّلع على المقررات أن المقرر تحول إلى كتاب تقييم بدلاً من الشرح، فتحول جزء كبير منه لطرح الأسئلة والاستنتاجات النحوية بل والمصطلحات النحوية دون شرح لها، اعتمادًا على استقلالية المتعلم واستخدامه المصادر بنفسه! وهذا لعمري سوء فهم لمنهج تعليم اللغة الحديث! وربما هذا الخلل يعكس المقولة الرائعة التي طرحتها باتسي لا يتبون (Patsy Lightbown): «المبادئ الرائعة ليس بالضرورة أن تعطي نتائج ممتازة» فالحماس الذي أبداه مؤلفو المقررات الخاصة باللغة لتغيير المنهج السابق لم يكن له الأثر المأمول في الميدان! كما أن المختصين بمناهج تعليم اللغة يقررون أنه قد يكون هناك كتاب جيد أو مذهب جيد لكنه غير مألوف للمدرسين مما يؤدي إلى مقاومته أو إلى خلاف بين المهتمين أو سوء تطبيق له. إن من ينظر نظرة سريعة على الوزارة في مقرراتها ومناهجها يخرج بانطباع - متشائم إلى حد كبير- أن الطالب تحوّل إلى وعاء يُملأ فيه أكبر قدر ممكن من المعلومات حتى غدا مثل مراسل الجهات الحكومية الذي يمر على كل إدارة لتعطيه حملاً معه يأخذه في طريقه (قبل تخرجه)، فيُكلّف بالفطور وإنجاز أعمال الزملاء وأخذ أبناء البعض من المدرسة وغير ذلك من الأعمال؛ فوظيفته التحميل بأكبر قدر من الطاقة! وتحميل المتعلم للمعارف منهج قديم معروف في التربية إلا أننا نبالغ فيه ربما بتأثير من أننا ما زلنا في ذاكرتنا الجمعية أمة مشافهة لا نأمن على تراثنا من الضياع ولو كان مكتوبًا؟ إضافة إلى أن خيبة أملنا وإحباطنا من المستقبل والحاضر جعلنا نركّز جهودنا وقدراتنا على الماضي اللغوي ولم نفلح فيه أيضًا بدليل الشكوى العامة من الضعف اللغوي! ودائمًا ما نجد المجتمع ينادي بإقرار مادة كذا وكذا في التعليم، والوزارة تستجيب، فعلى ما أذكر تم إقرار الفلسفة والتفكير الناقد ثم الثقافة العسكرية - أو هي في طريقها للإقرار- وهناك من ينادي بإقرار ثقافة المرور وغيرها، هذا إضافة إلى المقررات المتخمة أصلاً، حتى غدا الطالب كما قلت حمّال معلومات ومقررات! على أية حال ينبغي إلا يتملكنا إغواء الانتقاد وشهوة التنظير على من هم في الميدان الذين يحرصون على الجودة لكن قد لا تسعفهم المصادر الموجودة - أو غير الموجودة أصلاً- للغة العربية! فمن الإنصاف في التقييم أن نتحدث عن الإشكالات في الميدان وعن قناعات رجال الميدان ونسائه وآرائهم مثلما نتحدث عن آرائنا نحن البعيدين عن الميدان. فمن خلال تعاملي المباشر حين كنت معارًا لمشروع الملك عبدالله بن عبدالعزيز لتطوير التعليم العام وللوزارة لمست الحماس الكبير والدعم من المبدعة والإدارية الناجحة د. نورة الفايز حين كانت نائبًا لوزير التعليم، وكذلك الحماس والدعم من د.العيسى وزير التعليم السابق، والحماس والدعم من وزير التعليم الحالي د.آل الشيخ حين كان نائبًا للوزير؛ بل كان لدى آل الشيخ مشروع قديم - أن لم تخنّي الذاكرة- لرصد التدريبات والتطبيقات اللغوية في المواد غير اللغوية، وهذا تطبيق لغوي علمي ممتاز. ومن الصعوبات التي تحول دون التطبيق للآراء الحديثة أن يكون للمجتمع متطلبات، وللعلم وأهله متطلبات مختلفة، وقد أشارت باتسي لا يتبون إلى شيء من ذلك وهي تتحدث عن انتصار الضغط الجماهيري على المفاهيم العلمية في كندا!! حين حكت فشلها مع زميلتها المتخصصة لثني السلطات التعليمية عن إقرار تدريس لغة ثانية في سن الطفولة المبكرة؛ لأن هذا التوجه في رأيها العلمي لا يجني فوائد توازي حجم الجهود التي يهدرها والوقت الذي يستنزفه، فكل الناتج يمكن الحصول عليه بعد الثانية عشرة مع تعليم ثنائي اللغة. فإذا كان هذا حال العالم المتقدم فكيف يكون الأمر في العالم الثالث؟! بل أشارت إلى رسم كارتوني طريف يصوّر اللغتين في عقل (دماغ) الطفل بالبالونين حيث يكبر أحدهما على حساب احتلال مسافة الآخر والضغط عليه!! وأعتقد أن التنظير العربي غير بعيد عن مثل هذه التصورات الشعبية. في المقابل يجب ألا يثنينا هذا الواقع عن المحاولة الجادة التي تعذرنا أمام التاريخ والأجيال، فأعتقد أنه يجب على الوزارة أن تسعى لما يُسمى توفير المصادر وإتاحتها للمعلمين والطلاب والأُسَر. وأعتقد كذلك أنه حان الوقت للتخلي إلى حد ما عن الكتاب المقرر في مقابل توفير المصادر التي يؤلف منها ويختار المعلم ما يناسب طلابه؛ فوجود دولة مثل المملكة في حجم قارة قد يجعل من الصعب توفير كتاب يلبي حاجات جميع الطلاب والمعلمين ورغباتهم، ولذلك فربما يكون العمل على تنمية الاستقلالية ومراعاة الفروق الفردية والإقليمية بين الطلاب والمعلمين أحد الحلول التي ينبغي أخذها على محمل الجد. وأتذكر الطلاب في النظام التعليمي البريطاني لا يحملون في المرحلة الابتدائية أي كتاب؛ بل لديهم مطبوعات توزّع عليهم ويعملون على مواد من مصادر مختلفة. الأمر الآخر الذي أقترحه على وزارة التعليم في مجال اللغة العربية وتنمية المفردات والتراكيب أن نأخذ من كل قرن أهم مفرداته وتراكيبه وأهم نصوصه لنكتفي بها في تدريسنا ونكون تحاشينا إهمال شيء في اللغة العربية وتراثها الممتد العزيز علينا. كما أود صياغة ما قالته الباحثة باتسي لا يتبون وما فهمته منها على طريقة مقترحات للوزارة علها تجد القدر الكافي من التأمل: - على الرغم من أن العلماء الكبار منظّرون إلا أنهم يشجّعون التركيز على البحوث الميدانية والدراسات التطبيقية والعمل بنتائجها وليس الاكتفاء بالتنظير وما يقوله العلم نظريًا مهما بلغت مصداقيته وانتشاره. - الباحثون الكبار يؤكّدون باستمرار أهمية الواقع وتعقيداته وعدم جدوى إهماله وتجاهله؛ فكل سياق تربوي له إشكالاته الخاصة وتحدياته وفرَصه وحاجاته التي ينبغي إلا تُستورَد له ملابس أجنبية عنه ليُجبر على التأقلم معها والتكيف بلبسها! - أن التعليم بطبيعته لا يمكن أن يحل جميع المشكلات، وهذا في رأيي ردّ على بعض فئات المجتمع لدينا - وأنا أحدهم- في مطالباتها وزارة التعليم بكل شيء مهما كان؛ فالوزارة مُطالبة بالعمل في حدود المتاح وحسب التقاليد العلمية، والتوفيق بيد الله، وقد يحالفها الحظ أو يكون ذلك دافعًا إلى التغيير والإصلاح والمحاولة مرة أخرى. - من المبادئ المهمة كما ذكرت باتسي أن مطالبة المختصين للمتعلمين بالانغماس والغمر والسباحة في اللغة (وهو المنهج التكاملي الذي أقرته الوزارة) بدلاً من التعلم حول - عن السباحة نفسها (المنهج القديم للوزارة) لا يلغي أهمية تعليم القواعد والنحو (التعليم الصريح)، فلعل الوزارة تحذر من أن يأخذها الحماس بعيدًا عن تدريس النحو واللغة والتركيب. - أخيرًا طالبتْ باحترام اللغة الأولى التي يجلبها الأطفال في التعليم الثنائي، وبهذا نطالب باحترام الدارجة والعامية مع العناية بالفصحى وعدم اعتبارهما خصمين متنافسين في حلبة مصارعة وعدوين في ساحة معركة وأرض قتال سيصرع أحدهما الآخر بالضرورة! في الحلقة القادمة نستكمل بعض المفاهيم الغائبة عن تعليمنا للغة العربية التي تهتم بها اللسانيات التطبيقية وتوليها حقها من الرعاية. ** **