تحدثتُ في الحلقة الأولى عن التأثير الوجداني السلبي لوصف أهل اللغة ومتعلميها بالضعف على الاكتساب اللغوي وتعلُّم اللغة، وأن ذلك الوصف قد يكون حاجزًا وعائقًا أمام التقدم في تعلُّم اللغة، وبذل الجهد في طلبها؛ وقد يكون في حالات قليلة تحدّيًا، يشحذ الهمة إذا أدّى - بطريق الخطأ - لنتيجة عكسية للمقصود منه، لكن يبقى التقييم المجحف بالمرصاد، إضافة إلى أن ملاحقة العامية (الدارجة) ومحاولة قمعها قد يكونان أحد العوامل وراء انتشار الأسماء الأجنبية وهجر اللغة الأم (عامية أو فصحى)؛ فالمتحدث قد يتجنب استخدام مصطلح أو اسم عامي (دارج) أو ما يوحي بأنه يحمل نزعة أو (نكهة أو حتى رائحة!) عامية، ويستخدم بدلاً منه مفردة أجنبية!! وأعتقد أن انتشار المفردات الأجنبية نتيجة طبيعية لقمع الدارجة، وعدم قناعة المتحدث باستخدام الفصحى، أو عدم إجادته إياها؛ فيعبّر عن رفضه باستخدام مفردة أجنبية؛ إذ إنها المهرب من ملاحقة مَن يجيد الفصحى، ويطالب الآخرين بأن يكونوا مثله في ذلك بغضّ النظر عن كونه أفنى حياته في طلبها، وكونها مصدر رزق له، بينما هي ليست كذلك لدى الآخرين. وربما يكون الرد الفطري لمن لا يجيد الفصحى على من يجيدها ويُظهر أنه (المجيد)، ويتفوق عليه (على من لا يجيدها)، أن يحاول من لا يجيدها إبراز جانب تفوق على الآخر في استخدام اللغة الأجنبية! وهذا هو الجانب الأول من الجوانب التي أناقشها تحت مظلة تشخيص مقولة (الضعف اللغوي).. وفي هذه الحلقة أستكمل بعض القضايا المتعلقة بالضعف اللغوي العام (سواء كان حقيقة أو توهمًا) الذي نردده ونسمعه ليل نهار مبتدئًا بالجانب الثاني، وهو منطلقنا (الخاطئ) في تقييم الطلاب والمتعلمين، ووصفهم بالضعف اللغوي. ففي رأيي، إن الوصف بالضعف اللغوي جاء نتيجة لتقييم متحيز لصالح الضعف في كتابة بعض الحروف في حالات معينة، أو أنه جاء نتيجة لإعراب (أو ضبط بالشكل) في أواخر الكلم، أو نتيجة تحدُّثنا بالعامية (الدارجة) بدلاً من الفصحى في بعض المواطن. فإذا رأينا شخصًا كتب مثلاً: «أدعوا الله انه يوفقك»* فقد نصفه بضعف لغوي؛ لأن الكتابة الصحيحة «أدعو الله أن(ه) يوفقك». فالتقييم هنا ركّز على مهارة الإملاء (والإملاء جزء من مهارة الكتابة والتعبير الكتابي)، وأهمل إجادته التركيب بأن لم يقدّم عبارة يوفقك على أنه مثلاً، أو الكاف على يوفّق؛ لأن هذه الإجادة لا نلقي لها بالاً على الرغم من أن اكتسابها عملية معقدة، لكن لا نراها ولا نحس بها. كما أنه ركّز على حرف الهمزة، وأهمل كيف كتب حرف الدال والهاء والفاء والقاف والكاف؛ وهو ما يتطلب مهارات خاصة؛ لأن هذه المهارات أيضا مما لا نلقي لها بالاً في حكمنا الجائر بالوصم بالضعف. ولا خلاف في أن مهارتَي القراءة والكتابة مهارتان لغويتان (وحياتيتان أيضًا)، مثل المشي والأكل؛ فهما ليستا مختصتَين باللغة، وإن كانتا تُدرَّسان ضمنها؛ لأنهما أنشطة ومهارات أساسية في الحياة المعاصرة، ولا بد من معالجتهما في كل المواد؛ فاللغة أداة عبور لكل المواد والمعارف والمهارات الحياتية، لا يماثلها إلا المنطق والحساب، لكنها أهم؛ لأنها نفسها أداة للمنطق والحساب؛ فهي إن صح التعبير: أداة الأدوات. فقد حكمنا على المتعلم بضعف؛ لأنه أخطأ في كتابة بعض الحروف على الرغم من أنه لم يخطئ في التركيب؛ فهو خطأ جزئي في مهارة واحدة (الكتابة) من المهارات اللغوية الأربع، وأخطأ في بعض الحروف دون البعض الآخر. ألا نُعَدّ في هذه الحالة مجحفين بحق المتعلم؟! فمظاهر الإجادة لدى المتعلم في الجوانب اللغوية الأخرى، مثل التركيب وعدم تقديم الكاف في المثال السابق على يوفق (كيوفق*)، أو غيرها، لا تدخل في حساباتنا إذا أردنا الحكم بالضعف. فنحن نقيّم النحو من مفهوم الضبط بالشكل، ونهمل جانب التركيب تدريسًا وتقييمًا!! ولو استعرضنا موضوعات النحو والقواعد والصرف لوجدنا أنها موجّهة نحو ضبط أواخر الكلم؛ بل مقولة إن النحو إنما هو ضبط أواخر الكلم مقولة معروفة. فنحن لا نهتم بناحية التركيب وعملية التركيب وعمليات الكتابة المعقّدة.. ففي المثال الخاطئ الآتي: «المدرسة إلى ذهبتُ*» قدّمنا المجرور على الجار. ونحن فعليًّا لا نخطئ فيها، ولا ندرّسها بشكل مكثف؛ إنما ما ندرسه هو أن الجر بالحركة أو بالحرف أو... (مركّزين اهتمامنا على ضبط أواخر الكلم)! بل وجدنا من الرياضة النحوية المسلية لدى البعض أن يستدل بضبط أواخر الكلم وحرية الموقع على تميز العربية! فمثلاً يصح لديه أن يقال: «ذهب الرئيس إلى الحفل يوم الجمعة لحضور توزيع الجوائز»، وكذلك «ذهب يوم الجمعة إلى الحفلِ الرئيسُ لحضور توزيع الجوائز»، وكذلك «إلى الحفل ذهب الرئيس لحضور توزيع الجوائز يوم الجمعة»، وكذلك «يوم الجمعة إلى الحفل ذهب الرئيس لحضور توزيع الجوائز»، وكذلك «لتوزيع حضور الجوائز...» إلى آخر التغييرات في التركيب. وفي ظني إن هذا خلل في فهم اختلاف المعاني. ولو كان قائل هذه الفذلكة مصححًا لغويًّا لجريدة، ومرّ عليه المثال السابق: «ذهب يوم الجمعة إلى الحفلِ الرئيسُ لحضور توزيع الجوائز» لتوقف عنده وصحّحه إلا إن كان له معنى مقصود. فالشاهد هنا هو المبالغة في حرية الموقع على حساب تعليمنا التركيب، بما فيه من أدوات الربط المهمة في الكتابة والتعبير والحديث.. لكنها لا تجد لنا أي التفاتة! كما أن الوصف بالضعف قد يكون مبنيًّا على ضعف بالفصحى في جانب من جوانبها، كإعراب المثنى أو جمع المذكر السالم، وهو أيضًا تقييم جائر، يتجاهل إتقان العربي لهجته، وإجادته عملية الاكتساب الطبيعية الفطرية التي يحصل عليها بقية البشر، علاوة على محاولته إتقان مستوى آخر، يتقاطع مع لهجته بشكل أو بآخر! مما قد يسبِّب له ما يسمى في اللسانيات التطبيقية التداخل والتشويش (interference) (انظر: العصيمي، صالح. 1440ه-2019. اللسانيات التطبيقية: قضايا وميادين وتطبيقات). فقد وجدتُ في تويتر مَن يستدل على الضعف، ويتباكى على مستوى الطلاب؛ لأن أحدهم كتب: «انتصر المسملين»!* الإشكال حين يثق المتعلم بأن حكمنا عليه علمي وعادل؛ فيقنع نفسه بضعفه اللغوي، ثم يفشل ويترك الدراسة، ويغادر التخصص، ويكره الكتابة، ويكره القراءة، وربما يكره ما له صلة باللغة العربية بأكملها بسبب هذا الحكم الجائر؛ لأنه انطباعي، ومبني على خطأ في حرف أو أكثر من الحروف المدللة التي لا تُمسّ (سأشرح معنى ذلك تاليًا)، أو مبني على جزء من اللغة، وهو الإعراب، خاصة بالحروف؛ لأنه مقدّس لدينا، وليس حكمًا دقيقًا، راعى مظاهر الإتقان الأخرى، ووازنها، وأعطى الحكم العادل! أو ركّز على مستوى واحد من المستويات اللغوية. أعتقد أننا نأخذ مظاهر الإجادة والإتقان في اللغة بوصفها شيئًا طبيعيًّا، لا يستحق التأمل ولا الشكر، أو كما يقال باللغة الإنجليزية (take it for granted). أما اللساني والمتعلم الأجنبي فيعلم أنها عمليات جبارة، حبانا الله بها دون وعي منا. فحذف الضمير (أنا) في تركيب (أدعو) مهارة لا نلتفت لها، وكذلك كونه جاء في أول الجملة بدلاً من (الله أدعو)، أو (أن الله يوفق...) كل هذه الاحتمالات لا يحس بها إلا المحلل اللساني والأجنبي الذي يعاني من خلال محاولة تركيب جملة بسيطة ننطقها في أجزاء من الثانية بسبب ما أسبغه الله علينا من نعمة الاكتساب المعقد. إضافة إلى ذلك كله، حين أطلقنا الحكم بالضعف لم نقم بتحليل الخطأ تحليلاً علميًّا منهجيًّا، هل هو نقل أم تداخل أم مرحلة من مراحل التعلم؟ هل هو تعميم للقاعدة أم مبالغة في التعميم الخاطئ أم تحجر؟ فقد يكون مصدر الأخطاء أن المتعلم يمرُّ بمرحلة من مراحل التعلم، ويستخدم استراتيجية طبيعية، يقوم بها أي متعلم. أم هل الخطأ ناشئ مما يطلق عليه (تتابع النمو: التتابع الطبيعي أو من الترتيب الطبيعي لمراحل التعلم التي تلتزم بنظام اللغة لدى المتكلمين، لا بالمقررات الممنهجة، ولا بكيفية تتابعها في الكتاب المقرر)؟ فمثلاً قد أجد مما يشيع من الأخطاء التي نتندر بها ما هو دائم الوقوع فيه من قِبل المتعلمين في مرحلة ما من مراحل نموهم في الفصحى، ولا يدل إلا على اكتساب طبيعي، وتعلُّم يحدث مرحليًّا، ولا يلزم منه التندر والنياحة بقدر ما يلزم منه وعينا أنهم يمرون بمرحلة تعلُّم، تشير إلى حصول تقدم في الطريق الصحيح (انظر في ذلك كله المرجع السابق حيث هناك بعض الشرح لبعض ما مرّ من ظواهر). من المعلوم أنه يوجد أخطاء يقع فيها متعلمو اللغة بطريقة منظمة، وليست عشوائية، مثل المفردة المشهورة (رجّالين) في جمع (رَجُل أو رَجّال): فأي طفل سعودي ربما يكون مرَّ بهذه المرحلة التي تدلنا لا على خطأ مجرد فحسب؛ بل هذا الخطأ يُشعرنا بأن الطفل يعرف قاعدة جمع المذكر السالم، لكنه بالغ في تعميمه للقاعدة؛ ليجمع بها ما لا يُجمع جمع مذكر سالم، بل يُجمع جمع تكسير، وسرعان ما يتجاوزها ويتقن القاعدة تمامًا. ربما يتساءل القارئ: أعطنا بعض الأمثلة على ما تزعم! وهذا مشروع وأعترف بأن لدي بعض الأمثلة من التأمل، لكن البتّ فيها غير ممكن إلا على الاحتمال حين تخضع عملية الاكتساب، سواء للفصحى أو للدارجة العامية، للبحث العلمي الذي تخضع له لغات العالم المتقدم، حينها فقط سندرك بعض هذه الظواهر، ونعرف أنّ ما نصمه بخطأ قد يكون دليلاً على تقدّم لغوي وتطور ونمو. وهذه الظواهر هي التي تبحثها اللسانيات التطبيقية في العالم المتقدم، لكن لدينا - للأسف - نتحاشى مقارنة الفصحى بالعامية تفاديًا للقمع القومي الذي نقوم به دون أن نشعر، خاصة في اللهجات الخليجية، ودارجاتها وعامياتها التي يُعد البحث العلمي فيها داخل أسوار جامعاتنا كبيرة من الكبائر الموجبة للطرد والإبعاد المعنويَّين أو النفسيَّين أو المكانيَّين. سأتحدث في المقالة القادمة عن الضعف، هل هو في الطالب أم يعبِّر عن إشكالات في النظام الذي ننظر به إلى اللغة. ** **