من الفصحاء في الأزمنة المتأخّرة بعد عصور الاحتجاج أهلُ جبل عَكاد والعُكوتين في الجهة الجنوبية الغربية من جزيرة العرب، يشهد لهم جماعة من العلماء في عصور مختلفة باستعصام ألسنتهم بالفصاحة بعد عصور الاحتجاج، فهذا عمارة اليمنى المتوفى سنة (569 ه)، وهو من أهل بلدة الزّرائب بالقرب من جبلي عَكادِ والعُكوتين، يحكى في كتابه تاريخ اليمن (المفيد في تاريخ صنعاء وزبيد) أنّه حين دخل مدينة زَبيد سنة (530 ه) ليطلب الفقه، وهو دون العشرين من عمره، تعجّب الفقهاءُ في جميع المدارس التي ألمّ بها في تلك البلدة من أنه لا يلحن في شيء من الكلام، قال عمرة «فأقسم الفقيه نصر الله بن سالم الحضرمي بالله تعالى: لقد قرأ هذا الصبي في النحو قراءة كثيرة. فلما طالت المدة والخلطة بيني وبينه، صرت إذا لقيته يقول: مرحبًا بمن حنثتُ في يميني لأجله»، وذكر أنه حينما زاره والده وسبعة من إخوته في زَبيد تحدّثوا مع الفقهاء، قال «فلا والله ما لحن واحد منهم لحنة واحدة أثبتوها عليه»، وقال: «والعكوتان جبلان منيعان لا يطمع أحد في حصارهما، وفيها يقول راجز الحاجّ إذا نفروا، يخاطب عينه: إذا رأيتِ جَبَلَيْ عكادِ وعُكْوَتَينِ من مَكانٍ بادِ فأبْشِرِي يا عَيْنُ بالرُّقادِ وجبلا عكادِ فوق مدينة الزرائب أهلهما باقون على اللغة العربية، من الجاهلية إلى اليوم، لم تتغير لغتهم؛ بحكم أنهم لم يختلطوا قطّ بأحد من أهل الحاضرة في مناكحتهم ولا مساكنهم. وهم أهل قرار، لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه». وقال عمارة في (النكت العصرية) في حديثه عن نفسه: «وأما الوطن فمن تهامة باليمن، مدينة يقال لها: مُرْطان، من وادي وَساع، بُعْدُها من مكة في مهبّ الجنوب أحد عشر يومًا، وبها المولد والمربى، وأهلها بقيّة العرب في تهامة؛ لأنهم لا يساكنهم حضري ولا يناكحونه ولا يجيزون شهادته ولا يرضون بقتله قَوَدًا بأحد منهم، ولذلك سلمت لغتهم من الفساد». ونقل قوله هذا بعض مؤرخي اليمن، ولم ينكروه عليه، منهم أبو الحسن الخزرجي (ت 812 ه) وعنه نقل با مخرمة (ت 947ه). ولم أقف على موقع مُرطان، وأمّا وادي وَساع فهو أحد أودية مركز وَساع الذي يتبع محافظة هروب الواقعة بمنطقة جازانجنوب غرب المملكة العربية السعودية. وقال ياقوت (ت 626ه) في القرن السابع: «عُكّاد: جبل باليمن قُرب زبيد، ذكرته في عُكوتين»، ونقل في عكوتين شهادة عمارة في فصاحتهم، قال: إنّ «أهلها باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم، لم تتغير لغتهم، بحكم أنّهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة في مناكحةٍ، وهم أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه». ثم نجد هذا القول يتردّد في عدد من المصادر اللغوية ومعاجم البلدان، وشهد لهم ثلاثة من علماء اللغة، أولهم: الصغاني (ت 650ه)، قال: «عَكَادٌ: جَبَلٌ قُرْبَ زَبِيدَ، وأَهْلُه باقُون على اللُّغة الفَصِيحة»، وهذا يحتمل أمرين، أحدهما: أنه نقله عن ياقوت أو عن عمارة اليمني وأيّدهما، والآخر أنه نقل ما عرفه هو عنهم، إذا رحل الصغاني إلى اليمن غير مرة، ومرّ بزبيد. وثانيهم: الفيروزي (ت 817ه) الذي أقام بزَبيد وعرف حال أهلها، قال: إنّ أَهْل عَكادِ «باقُون على اللُّغة الفَصِيحة»، وظاهرٌ هنا أنه ينقل عن الصغاني في التكملة، وأحسبه لو شكّ في صحتها لما نقلها، فهو ممن أقام بزبيد ووَلِيَ القضاء بها، وشافه الناس هناك، وعرف حالهم، وكان موته بزبيد. وثالثهم: المرتضى الزَّبيديّ (ت 1205ه) صاحب التاج، وقد أشار إلى وصف الفصاحة الذي ذكره الفيروزي، قال: إنّ أهل عكاد باقون «على اللُّغَة الفَصِيحة إلى الآنَ، ولا يُقِيم الغريب عندهم أكثرَ من ثَلاث ليالٍ، خوفًا على لِسانهم». وفي نصه هذا إضافة مهمة، وهي قوله: (إلى الآن) يعني إلى زمانه في القرن الثاني عشر. وهؤلاء اللغويون الثلاثة يؤيّدون ما ذكره ياقوت وعمارة قبله، ويستفاد من قول الزبيدي بقاء الفصاحة فيهم سبعة قرون بعد زمن عمارة اليمني. وفي لغة العكاديّين وبعض أهل السروات الجنوبية وسروات الحجاز يقول مصطفى صادق الرافعي: «ولا يُعرف قومٌ خَلَصَتْ لغتُهم غير أولئك العكادِيين... على أنّ لسان البدو النازلين في الجنوب من شبه جزيرة العرب لا يزال إلى اليوم أكثر شبهًا بالفصيح من بعض الوجوه دون غيرهم من سائر العرب، وأظهر ما يكون ذلك على ما تبيّنه الرواد في سكان حارب وبَيْحان. وكذلك يقال في قبائل فَهْم وقَحطان في الحجاز؛ إنهم أكثر انطلاقًا في الألسنة من سائر عرب الشمال». وأشار عبدالقادر المغربي (ت 1375ه) -عضو مجمع اللغة بدمشق- إلى فصاحة لغة العكادِيين في زمانة، وقال: «... وحدّثني العلامة المرحوم الشيخ أحمد الإسكندري (ت 1357ه) في إحدى جلسات مجمعنا هذا قال: إن السيد عبد الرحمن الكواكبي المعروف في القاهرة أخبره أنه في أثناء سياحته في جزيرة العرب مرَّ بجبل عكادٍ المذكور فوجد أهله كما وصفهم ياقوت والفيروزآبادي والزَّبيدي». ونقل كلام ياقوت والفيروزي والزّبيدي أو أشار إليه جماعة من اللغويين دون أن ينكروه، ومنهم محمد أحمد العقيلي، ومحمد علي النجّار، وهاشم طه شلاش، وعبدالفتاح سليم، ونهاد الموسى. وقال محمد علي الأكوع محقق تاريخ اليمن لعمارة حين ذكر فصاحة أهل عَكاد: «خبّرني الأخ قاسم ناصر من مدينة جازان أن أهل الجبلين –يقصد جبلي عكاد المذكورين في الشعر وعند عمار- لا زالت لغتهم في الفصحى، إلّا بعض الشيء بحكم الاختلاط. وعكوتان وعَكاد والزرائب من وادي بيش بالمخلاف السليماني». وهذه المواضع واقعة في زبيد، وهي –أي زبيد التاريخية- منقسمة اليوم بين اليمن ومحافظة جازان السعودية، وتقع كلها في المخلاف السليماني، كما قال الأكوع،. وذكر بعض الباحثين أنّ جبل عكاد في محافظة الدرب (درب بني شعبة في تهامة)، وأما عكوة أو عكوتان فشرق مدينة صبيا، ووادي وَساع في محافظة هروب كما أسلفت. والزرائب وعَكاد وعكوة أو عكوتان ووادي وَساع مواضع في المخلاف السليماني، تقع اليوم في محافظاتي بيش والدرب في منطقة جازان السعودية، ويرى الدكتور عبدالله الفيفي أن المنيع من تلك المواضع هو العكوتان. وشكك في هذا الخبر أحمد فارس الشدياق، قال بعد أن أورد نص الفيروزي: «وبقي النظر في صحة هذا الخبر إذ لا يحتمل أن اللغة العربية بقيت إلى عهد المصنف سالمة من اللحن»، وتابعه الدكتور عبّاس السوسوة في هذه المسألة، وأنكر فصاحتهم، وكذّب عمارة وسخر منه، وأنكر قول ياقوت والفيروزي والزبيدي، ولام علماء اللغة الذين نقلوا هذه النصوص دون إنكار وردّ، ولم يكن رأيه عن معرفة بهم أو دراسة ميدانية، ولكنها افتراضات واستنتاجات نجم بعضها عن عاطفة وتحامل ظاهر على عمارة، وألزَمَه بإلزامات لا تلزمه، وحمل عليه لكلامه عن العُدار الدابّة، وهو مسبوق في ذلك من جمع من البلدانيين، كالأسطخري (ت 346ه) في المسالك، وابن الفقيه (ت 365ه) في البلدان، وابن حوقل (ت بعد 367ه) في صورة الأرض. وما انتهى إليه مردود، وقال إن الصغاني (ت 650ه) لم يُشر إلى هؤلاء القوم الفصحاء في عكاد، ولو اطلع على مادة (عكد) في التكملة والذيل والصلة لما قال هذا، وقد نقلت نصّ الصغاني أعلاه، وعلّقت عليه. ولا تُستغرب فصاحة تلك الديار في القرون الهجرية الوسطى، وخاصة في الألفاظ، وأهل الجبال في السراة وما جاورها فصحاء، من الباحة إلى اليمن، وكانت تلك الديار تسمى بلاد اليمن، وشهد لهم بالفصاحة من رآهم وسمع كلامهم، كالرحالة ابن جبير(ت 614ه) الذي قال: «إن قبائل من اليمن تعرف بالسّرو، وهم أهل جبال حصينة باليمن تعرف بالسراة.... والقوم عرب صرحاء فصحاء جفاة أصحاء لم تغذهم الرقة الحضرية ولا هذبتهم السير المدنية»، وقال فيهم الرحّالة ابن بطّوطة (ت 779ه): «وبلاد السّرو التي يسكنها بجيلة وزهران وغامد، وسواهم من القبائل مخصبةٌ كثيرة الأعناب وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن، لهم صدق نية وحسن اعتقاد». فكيف ننكر فصاحة العكاديين ومن جاورهم وهم لا يخالطون غيرهم، ولا يقيم فيهم الغريب أكثر من ثلاث؟ وهم جيران أهل السراة في اليمن وجنوب المملكة أهل الجبال الحصينة، وتجاورهم جبال القهر والريث المنيعة، وقد تكون هي من ديارهم، فهي قريبة منهم. وليس لأحد -مع هذا كله- أن ينكر فصاحتهم في الألفاظ على الأقل، وقد رأيتُ ذلك في تجربتي في جمع الألفاظ، فما يرويه لي رواة الجبال كالسراة الجنوبية وحتى السراة الوسطى بين الحرمين في جبال شمنصير وقدس وورقان أنّ أغلب ألفاظهم من الفصيح المليح، الذي تصدّقه معايير الفوائت الظنية، وأجد بعضه في مصادر قديمة وإن أخلّت به المعاجم. ثم إنّلرواية التي ذكرها ياقوت أيّدها ثلاثة معجميون أقاموا باليمن وبعضهم مات فيه، وهم الصغاني والفيروزي والزبيدي، والأخير أيّد قول الفيروزي وذكر أن فصاحتهم باقية إلى زمانه هو، وهو منسوب إلى زبيد كما هو معلوم، وزاد على قول صاحب القاموس: «ولا يُقِيم الغريب عِندهم أكثرَ من ثلاث ليالٍ، خوفًا على لسانِهم»، ورأينا كلمة عبدالقادر المغربي (ت 1375ه) وإشارته إلى فصاحة العكاديين، ونقله عن أحمد الإسكندري أنّ «عبد الرحمن الكواكبي المعروف في القاهرة أخبره أنه في أثناء سياحته في جزيرة العرب مرَّ بجبل عكاد المذكور فوجد أهله كما وصفهم ياقوت والفيروزآبادي والزبيدي». فمن الصعب بعد هذا لإنكار فصاحتهم، ومن رأى وسمع حجة على من لم يَرَ بعينه ولم يسمع بأذنه. وأرجو من الباحثين اللغويين في جامعة جازان أن يجروا دراسة لغوية ميدانية على تلك المناطق التي أشرت إليها، للوقوف على أحوال أهلها في اللغة، وأحسب أن فصاحتهم في الألفاظ لم تزل باقية إلى يومنا هذا، وأما الإعراب فأظنه درس في العقود الأخيرة أو درس أكثره؛ لأن الانعزال في زماننا هذا لم يعد ممكنا. ** **