يجول في خاطري سؤالٌ، لم أجد له جواباً شافيًا؛ مفاده أن الأقدمين شعراء بالفطرة، ارتجلوا قصائد خالدة في مناسبات، وربما أعدوها ذهنيًا كفكرة اختمرت فولدت قصيدة لبث الحماس خلال صراعات غلب عليها المديح لقبيلة ينتمي إليها الشاعر والهجاء لغيرها، أو الغزل والحكمة، في محافل كسوق عكاظ أو سواه، وُلِدَت قصائد لا عوار عروضيًا فيها، وذات جرس موسيقي أخَّاذ، ثم دونها من جاء بعدهم اعتمادًا على حفاظ الشعر، ثم صار صناعة بعد أن تم تأليف علم العروض على ضوء الشعر المحفوظ من الأقدمين. بالمقابل؛ ليس جميع من ينتج قصيدة بصناعة وشطب غير شاعر لكن من الظلم أن نضعهما في سلة واحدة مع الشعراء الأقدمين، فهل تأليف علم العروض اجترأ على موهبة الارتجال أو الإعداد الذهني الصرف. من جانب آخر، أشير هنا إلى أنشعر الأقدمين لم يكن جله ذا رسالة إصلاحية أو يتوفر على قيم خالدة، أغلب الشعر في العصر الأموي والعباسي مديح يٌتَكسَّب به الشاعر كمصدر لمعيشته، لكن ما أقصده عن شعر الأقدمين من الجانب الفني قبل انتشار الكتابة والتدوين. ولا يعني هذا أن نغفل أن شعراء معاصرين أنتجوا قصائد ذات رسالة هادفة وقوية، ومن غير المنصف أن نصنِّف من جُلَّ قصائدِهم تتناول جسد المرأة أن نخرجهم من دائرة الشعراء.. فأبو نواس ونزار وغيرهما يعدون من أعلام الشعر العربي القديم والمعاصر من حيث التراكيب والنسق الفني العروضي. فهل نجد من شعراء اليوم من كتب قصيدة ولم يشطب حرفًا واحدًا إلى أن فرغ منها سواء من حيث النحو والصرف أو الوزن والقافية، دون أن يشطب كلمة أصيلة لها من الرمزية والقوة والشيوع في المعنى لدى مختلف طبقات المتلقين، ويستبدلها بكلمة قد تكون أقل دلالة وقيمة وشيوعًا، ليس إلا لتخلو القصيدة من الكسر أو لتلافي خلل يخرجها عن الشعر العامودي بشتى أنواعه. سيقول البعض هل لديك شواهد حيّة، أجيب لا أخال شاعرًا اليوم لا يشطب أو يستبدل... لذلك فرق بين شعر وصناعة شعر، الأول من يرتجل قصيدة مباشرة لا عوار فيها سواءً أعدها ذهنيًا أو بنت لحظتها، وبين آخر حدب على كتابة قصيدة أيامًا؛ أشبعها شطبًا وإحلالاً، فهل يستويان؟. ** **