رغم أن جمهورية النمسا تعتبر اليوم دولة صغيرة من ناحية المساحة وعدد السكان (قرابة 8 ملايين)، غير أنها كانت وما زالت قوة عظمى في عالم الموسيقى الكلاسيكية والفنون المسرحية المحكية والمغناة (الأوبرا)، حيث كانت فيينا لعدة قرون عاصمة الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، ثم وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى عاصمة إمبراطورية النمسا ومملكة المجر، مما جعلها عاصمة للفن والموسيقى في أوربا، فكانت بالتالي ملتقى عمالقة الموسيقى الكلاسيكية الكبار، الذين إما ولدوا وعملوا فيها، أو قدموا للعمل فيها وكتبوا أعمالهم الموسيقية الخالدة في مرابعها وقدموها في قصورها وصالاتها وكان مثواهم الأخير فيها أيضا مثل: جوزيف هايدن Josef Haydn ( 1732 1832)، و فولفجانج موتزارت Wolfgang Amadeus Mozart (1756 1791)، و لودفيج فان بيتهوفن Ludwig van Beethoven (1770 1827)، وفرانز شوبيرت Franz Schubert (1797 1828)، وفرانز ليست Franz Liszt ( 1811 1886)، ويوهان شتراوس الإبن Johann Strau? Sohn (1825 1899 ) صاحب فالس الدانوب الأزرق الجميل، وأبوه وإخوته، و يوهانيس براهمز Johannes Brahms (1833 1897) وغيرهم كثير ممن مازالت أعمالهم الموسيقية تقدم في صالات الموسيقى ودور الأوبرا والمسارح الغنائية في جميع أنحاء العالم، ولكن فيينا تبقى محتفظة بمقام السبق والريادة في كل هذه المجالات، بناءاً على هذا الإرث الفني الثري واعتمادا على المؤسسات التي أسست في العهد الإمبراطوري منذ بداية القرن التاسع عشر، وفي مقدمتها: « جمعية أصدقاء الموسيقى Gesellschaft der Musikfreunde « التي شارك في تأسيسها 507 شخصيات اجتماعية عام 1813 م.، ومنذ ذلك التاريخ تبنت هذه الجمعية رعاية الفنون الموسيقية وما زالت. ففي عام 1817 أسست الجمعية «معهد تعليم الموسيقى Konservatorium « الذي أسندت إدارته إلى الموسيقار أنطونيو سالييري Antonio Salieri ، وعام 1831 أنشأت الجمعية أول صالة متخصصة بتقديم حفلات عزف الموسيقى الكلاسيكية فقط Konzertsaal، بعد أن كانت هذه الموسيقى تقدم في القصور والمسارح والمقاهي العامة، وفي عام 1858 تفرعت عن هذه الجمعية جمعية متخصصة بفن الغناء Singerverein ، وعام 1859 تفرع عنها كيان متخصص جديد هو جمعية الفرق الموسيقية Orchesterverein. - وعندما تقرر إزالة السور المحيط بمدينة فيينا القديمة في ستينات القرن التاسع عشر والاستعاضة عنه بشارع دائري سمي شارع الخاتم Ringstra?e ووزعت الأراضي الخالية على جانبيه إلى مقاسم بناء بيعت للمستثمرين، أو أنشئت عليها مباني حكومية إدارية وثقافية مثل: دار الأوبرا، ومبنى البرلمان، ودار البلدية، ومسرح البلاط الامبراطوري الملكي، ومتحف تاريخ الفن ومتحف التاريخ الطبيعي، وغيرها. وطلبت جمعية أصدقاء الموسيقى من الإمبراطور فرانز جوزيف الأول منحها قطعة أرض لتقيم عليها مقرا جديدا لها، فمنحها قطعة أرض كبيرة بنت عليها مقرها الفخم الحالي، حيث قام الامبراطور شخصيا بوضع آخر حجر للمبنى في مكانه في احتفال كبير يوم 5 يناير 1870، وفي اليوم التالي، أي يوم 6 يناير 1870 أقيم في القاعة الذهبية الكبرى الجديدة أول حفل Konzert للموسيقى الكلاسيكية. - وفي عام 1900 تفرع عن الجمعية كيان جديد آخر هو جمعية الحفلات الموسيقية الفييناوية Wiener Concert-Verein: - وفي عام 1909 انتقلت ملكية معهد تعليم الموسيقى Konservatorium إلى الدولة وأصبح اسمه « الأكاديمية الإمبراطورية الملكية للموسيقى والفنون التعبيرية K.K. Akademie für Musik und darstellende Kunst « ثم انتقلت الأكاديمية عام 1913 إلى مقر جديد خاص بها، وحل محل جمعية أصدقاء الموسيقى مجموعة من المؤسسات الموسيقية كمستأجرين وهي: الفرقة الفيلهارمونية الفييناوية Wiener Philharmoniker تأسست هذه الفرقة لعزف الموسيقى الكلاسيكية عام 1842 ومازالت تعتبر من أشهر وأهم الفرق الموسيقية في العالم، وتقدم حفلاتها الموسيقية في أكبر وأشهر الصروح الموسيقية في أنحاء العالم. دار نشر النوتات الموسيقية Universal Edition شركة صناعة أجهزة البيانو الأشهر عالميا B?sendorfer « القاعة الذهبية الكبرى» يضم مبنى جمعية أصدقاء الموسيقى بين جنباته عددا من القاعات، التي تقدم فيها الحفلات الموسيقية الكلاسيكية المتوازية على مدار السنة، ولكن أهمها وأشهرها هي القاعة الذهبية الكبرى، التي تعد أجمل وأشهر صالة لإقامة حفلات عزف الموسيقى الكلاسيكية وأفضلها من جهة الطنين الموسيقي وجودة الصوت على مستوى العالم أجمع. تحتوي القاعة على (2854 مقعدا) تمتلئ عن آخرها عندما تقدم الفرقة الفيلهارمونية الفييناوية حفلاتها الموسيقية فيها، غير أن أهم هذه الحفلات هو حفل رأس السنة، الذي يقام من الساعة الحادية عشرة وحتى الواحدة بعد الظهر يوم الواحد من يناير من كل عام ميلادي، ويقوم بقيادة الفرقة أشهر قادة فرق الأوركسترا في العالم مثل: هيربيرت فون كارايان Herbert von Karajan (1908 1989)، و ليونارد بيرنستاين Leonard Bernstein (1918 1990)، وكورت ماسور Kurt Masur (1927 2015)، وكلاوديو أبادو Claudio Abbado (1933 2014)، ودانييل بارينبويم Daniel Barenboim (1942) وغيرهم كثير. تنقل محطات التلفزيون من 92 دولة هذا الحفل السنوي نقلا مباشرا إلى أنحاء العالم ويشاهده ما لا يقل عن 50 مليون شخص، ثم تحمَل موسيقى الحفل على أقراص مضغوطة مسموعة ومرئية وتوزع في أسواق العالم. يفتح باب قبول طلبات شراء البطاقات في الأول من فبراير ويغلق في 28 فبراير من كل عام، وحيث إن عشرات آلاف طلبات الشراء من كافة أنحاء المعمورة ترد لإدارة الحفل سنويا، لذا تجرى قرعة بين المتقدمين وتباع البطاقات للفائزين في القرعة فقط ليتمكنوا من حضور الحفل في اليوم الأول من السنة القادمة.