رحم الله الصديق الروائي والكاتب المعروف ناصر الظفيري، الذي انتقل إلى مثواه الأخير ودفن في كندا مؤخراً في مشهد مؤثر، حين يدفن كاتب (الصهد) في صقيع الثلج الكندي. هذا وقد تداول المغردون مقطعا له جاء فيه «أنا ما عندي جنسية بس أنا عندي وطن» في حديثه عن وطنه الذي لم يتح له الحصول على جنسيته. لست هنا أجادل أقوال الصديق بعد رحيله، لكن أكتب عن فلسفة الجنسية والوطن وقد كنت أناقشه فيها كثيراً. كان يفرق بين الوطن والجنسية فيقول عن بلده الخليجي بأنه وطني الذي لم يمنحني الجنسية وهذا ضمناً يعني أنه تعامل مع كندا كجنسية وتعامل مع بلده الأم كوطن، حاول أن يكون رومي وعبدالكريم معاً (أبطال روايته المسطر). عبدالكريم الذي لم يغادر الجهراء وعالمه بقي محصورا في تلك البقعة بما حملته من عذابات وصعوبات، ورومي الذي هاجر وترك الصحراء خلفه مع سبق الإصرار. أخلص رومي لوطنه الجديد، أعطته وبادلها العطاء والحب، منحته الأمان والرعاية بمختلف أشكالها ومنحته الفرصة ليثبت ذاته وأبدع في بيئتها، بينما عبدالكريم لم يتقدم قيد أنملة ببقائه في بيئته القاسية التي لم تعترف بهويته وحقوقه الأساسية. ربما كانت هذه الثنائية مصدر إرهاق لناصر وقد مال للتعامل مع وطنه الجديد - في منتجه الثقافي وليس بالضرورة في حياته الشخصية - كمجرد جنسية رغم أنها منحته وأسرته فرص التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية ومنحتهم الأمان المادي والمعنوي. هل الوطن مجرد عاطفة للمكان الذي ولدنا فيه أو حبونا خطواتنا الأولى في مدارجه؟ هل الوطن هو مجرد الانتماء القبلي بمفهومه العام وليس المتعصب القبائلي؟ أم أن الوطن هو الذي يعطينا ويمنحنا ويحتوينا؟ كنت أستفز صديقي في حواراتنا بأن علينا تجاوز التعامل مع الوطن كمجرد حالة نوستالجية عاطفية إلى التعامل معه وفق نظرة عملية براقماتية. وطنك هو الذي يمنحك الأمان والنمو ويرعاك ويرعى مستقبلك وليس الذي يعذبك ولو كان مجرد عذاباً معنوياً. ناصر الظفيري ربما لم يكن ناكراً لوطنه الجديد وفضله عليه وعلى أولاده بقدر ماكان مؤمنا بالدفاع عن قضية جوهرية في حياته وذويه. نعم، لقد أفنى ناصر وأرهق عمره في الدفاع عن قضية إنسانية لايجب إنكارها، وسيحفظ له التاريخ ذلك، حتماً. قد لا يعجب الكثيرون لفكرة البراقماتية في تعريف الوطن، لكنها الواقع المنطقي للحياة، فكثير من العرب هاجروا وتنعموا بأوطان جديدة وقليل منهم استمروا أوفياء لقضايا بلدانهم الأولى. أمنياتهم الأهم والمرهقة لمن بعدهم هي أن يدفنوا بأوطانهم الأمهات. كم هي متسامحة بعض الأوطان البعيدة مع مهاجرينا، ماذا لو كانوا مثل بعضنا نشكك في الإنسان لمجرد كون أجداده قدموا من بلاد بعيدة؟