اختزن ذاكرتين عن أبي مدين، أولاهما ذاكرة الطفولة، وقد كنت تلميذاً في المتوسطة، وفي مكتبة المعهد العلمي بعنيزة كانت تعرض الصحف السعودية مع مجلات سعودية وعربية تأتي حسب مواقيت صدورها وإن كان وصولها لنا يتأخر بما إن البريد في ذلك الحين يأخذ وقتاً لكي يصل نقاط التوزيع، ومن بين تلك الصحف صحيفة الرائد لرائدها ومؤسسها ومالكها عبد الفتاح أبو مدين، وكانت تلك الجريدة هي المفضّلة عندي من بين كل المعروض ولا أتجه لغيرها إلا بعد الفراغ منها، وكانت يدي دوماً هي الأسبق نحو هذه الجريدة متخطياً أيادي كل الطلبة المتجمهرين حول الجديد من الجرايد المرصوصة على طاولة المكتبة، وسبب الجذب في جريدة الرائد هو الروح الشبابية فيها باهتمامها بأدب الشباب والأدب الحديث، مع ما فيها من معارك تقع بين الأدباء، وكنا نعجب جداً بمهارة أبي مدين في توقيت توقيف المعركة حين يعلن إنهاءها بما أنها بلغت حدها، وهو الحد الذي يقيمه أبو مدين بإتقان كي لا تجنح المعركة للإسفاف أو التكرار والإملال، ومع هذا كنا نلمح صوراً وأسماء لجيل جديد من الكتاب تقدمهم الرائد، ونلحظ أن بعضهم من طلاب بعثات يكتبون من مقرات بعثاتهم وأذكر منهم أحمد الضبيب وعبد الله مناع، وكانا يكتبان من مقر البعثة، إضافة إلى أقلام شابة من جيزان مثل علي محمد العمير وهاشم عبده هاشم، وكل هؤلاء عرفناهم عبر جريدة الرائد ابتداءً. وهذا يربط ذاكرتي المبكرة هذه مع ذاكرتي اللاحقة في علاقتي بأبي مدين، إذ عرفته مباشرة حين استقر مقامي في جدة عام 1978 بعد عودتي من بريطانيا ومباشرتي للعمل في جامعة الملك المؤسس، وتولى الصديق الدكتور غازي عوض الله الجمع بيننا في مطابع دار البلاد، وذلك بعد حديث جرى بيننا ذكرت فيه ذكرياتي عن زمن جريدة الرائد وعن أبي مدين، فما كان من غازي إلا أن رتب مفاجأة جمعتنا ثلاثتنا، ومن تلك اللحظة قامت صداقة عميقة بين شاب كان يقرأ ويعجب بريادة رجل راد الصحافة وكافح من أجل القلم والعلم والثقافة، وتلاقت الذاكرتان في هذا اللقاء الحي وتحول التصور إلى واقع ماثل وحقيقة إنسانية. وهنا فهمت معنى ظهور جيل الشباب على صفحات جريدة الرائد، فهمته لأني صرت أرى حماس أبي مدين للشباب وأدب الشباب ومستقبل الشباب، وصرت أشهد هذا الحماس يترجم لعمل ثقافي منظم، تماماً كما كان يترجم بنشر أدب الشباب في الرائد، وفتح مجال الظهور أمامهم على واجهة صفحات الجريدة، ثم صار الرجل نفسه يفتح أبواب النادي الأدبي الثقافي بجدة بأوسع حالاتها لكل مبدع ومبدعة تتوق نفوسهم لاعتلاء منصات الكلام والفكر والمعرفة، وبدأ ذلك عام 1980 مع بداية رئاسة إبي مدين للنادي، حيث دشّن مشروع فتح مجالات النادي للجيل الشاب وحول منصة النادي لتكون منصة بعث فكري ونقدي وإبداعي، فأصبح النادي في عهده مدرسة فكرية في الحداثة والتجديد وكشف المواهب وتحفيز العقول، في أرجاء المملكة كلها، وكذلك فتح النادي للأسماء العربية من كافة أرجاء المعمورة بما في ذلك مهاجر أوروبا وأمريكا، وأصبح النادي علماً ثقافياً عربياً لافتاً بمنتوجه واستقطاباته، ودخلت المعركة حامية إلى قاعة النادي، وشهدت الصدامات الفكرية الحادة بين الحداثة والصحوة في الفترة من 1987وعلى مدى عقد من الزمان، اكتظت فيه قاعة النادي بالحضور المتحمس من الطرفين، وتعددت التقاشات وتنوَّعت، وبلغت حدود التوتر أحياناً، وتحقق للمتوترين بعض نجاحات لدرجة إلغاء جائزة الإبداع وعزل أبي مدين من إدارة النادي، وقد عزل ثلاث مرات، وعاد ثلاث مرات، بسبب تحمس الوسط الثقافي والاجتماعي مع الأستاذ، وقابله تقبل المرحوم فيصل بن فهد، الرئيس العام لرعاية الشباب الذي كان يقدِّر دور أبي مدين ويتفهمه ويعرف عن جديته وصدقه في صناعة جيل واع وفي تسخير طاقات النادي للفكر المتجدِّد والثقافة الحديثة. عاش أبو مدين صراعات الزمن وصروف الحياة منذ طفولته الفقيرة والمجدبة، فحول هذه المعاناة لتكون طاقة للنجاح والتحدي، وهكذا عاش قوياً ومبدعاً ومتبنياً للإبداع وصانعاً للبدايات، وتحمل في هذا الصعاب كلها، ودفع ثمن النجاحات بأعلى الأثمان، وكما أنه كسب نجاحاته بعرق جبينه فإنه تقدم ليجعل من جسده جسراً تعبر الأجيال من فوقه نحو ضفاف المعرفة بأعرض وأوسع أبوابها.