يحظى"نادي جدة الأدبي"بشهرة واسعة من خلال ندواته وإصداراته من مجلات مثل:"علامات"في النقد، وپ"جذور"في التراث، وپ"نوافذ"في الترجمة، وپ"الراوي"في الإبداع القصصي، وكلها تلقى إقبالاً لدى النقاد والأدباء في البلدان العربية على اختلاف مشاربهم. وهذه الشهرة لم تكن ضربة حظ، أو مصادفة عابرة، إنما كان وراءها عمل دؤوaب وجاد يبذله رئيس النادي الأديب عبدالفتاح أبو مدين الذي قدم استقالته وأعضاء مجلس إدارته أخيراً، في بادرة تعدّ الأولى من نوعها. هذه الشخصية الثقافية التي تعدّ ظاهرة فريدة في محيطها، لا تكاد تستريح ولا تريح أحداً ممن يعمل معها، في سعي حثيث إلى حراك ثقافيّ وحيويّ، يستوعب التطورات التي تشهدها الحياة الثقافية والأدبية في السعودية منذ نحو ربع قرن. واللافت في شخصية أبو مدين، أنه على رغم انحيازه إلى الأدب التقليدي بحكم تركيبته الثقافية، إلا أنه احتضن بحماسة نادرة التجارب الحداثية وما تتميز به من جموح ومغامرة. وهذا ما يحير كثيراً من يتابع تفرد"نادي جدة"على أكثر من مستوى. وتجري العادة بالنسبة إلى العمل الثقافي داخل الأندية الأدبية المتعددة، على أن يرتهن النادي كلياً لنمط الفكر الذي يتبناه رئيس النادي، وهو فكر تقليدي أحياناً وأحادي النظرة ويقصي كل ما لا ينسجم مع رؤيته. من هنا بدا أبو مدين مثقفاً يغرد خارج السرب، عندما صنع فضاءً ثقافياً حراً ومتنوعاً تتجاور فيه وتتحاور التجارب والأفكار على اختلافها وتنوعها أو تناقضها أحياناً. فهو وإن كان تقليدياً ومحافظاً في أدبه وكتاباته، لكنه مغامر ومجدد في طريقة إدارته الأدبية، فتح أبواب النادي للأدباء والكتّاب الكبار والشباب، شعراً ورواية ونقداً وقصصاً. وعندما يقرر المثقفون السعوديون برعاية وزير الثقافة والإعلام تكريمه، فهم إنما يكرمون مسيرة ثقافية وأدبية وصحافية امتدت عقوداً طويلة. فالعمل الثقافي الجاد والمتميز الذي قدمه"نادي جدة"، خلال العقدين الأخيرين، ما هو إلا وجه واحد من وجوهه المختلفة والمؤثرة، ومنها الوجه الأدبي طبعاً والنقدي والصحافي، وكلها وجوه أو أدوار جعلت منه شخصية ثقافية فريدة، تكشف ملمحاً مهماً من تطور الأدب والصحافة في السعودية. ولد أبو مدين في بنغازي ليبيا سنة 1926، من أب ليبيّ وأمّ تتحدر من الجزائر، وكان والده فقيراً يبيع الفحم والحطب. توفي والده وهو صغير، فعاش حياة قاسية، وتقلّب في مهن شقية عدة، عمل"قهوجياً"، وقارئاً للقرآن في مناسبات الموت، وخبّازاً. عانى ويلات الاستعمار الإيطالي في ليبيا، واكتوى بناء الحرب الإنكليزية - الإيطالية. وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، رحل برفقة أمه إلى مدينة جدة، بطلب من خاله، ثم غادر جدة إلى المدينةالمنورة ليسجل طالباً في مدرسة العلوم الشرعية، في الصف الرابع الابتدائي لكبر سنه. غير أنه لم يواصل تعلّمه مكتفياً بشهادة الخامس الابتدائي. كانت بدايات مطالعاته الأدبية على"نظرات"المنفلوطي ومجلة"الرسالة". ودفعه الشغف بالمطالعة الأدبية إلى إنفاق نقوده على شراء الكتب. وما لبث أن انخرط في العمل الصحافي، فعمل في صحف ومطبوعات، مثل"عكاظ"وپ"البلاد"، وساهم في إصدار"الأضواء". وبدأ حياته الصحافية من خلال عمود يكتبه في صحيفة"المدينةالمنورة"، يتناول فيه قضايا اجتماعية. ثم أصدر مجلة"الرائد"التي لعبت دوراً تنويرياً وثقافياً مهماً في تلك الحقبة آخر الخمسينات وبداية الستينات الميلادية. وتبنت مجلته شباباً طموحاً، أدباء وصحافيين، تشجيعاً ورعاية إلى أن أصبح لبعضهم شأن كبير، مثل هاشم عبده هاشم الذي يشغل اليوم رئيس تحرير جريدة"عكاظ"، والكاتب الصحافي علي العمير والناقد والأكاديمي حسن الهويمل رئيس"نادي القصيم"الأدبي وسواهم. وفي مساره الأدبي خاض معارك أدبية وأثار سجالات نقدية مع مجايليه والجيل الذي سبقهم، ونشر مقالات شديدة الوقع انتقد فيها تجارب شعراء يعتبرون كباراً في ذلك الحين، ما تسبب في إغلاق أبواب النشر أمامه، فلجأ إلى مصر، حيث واصل نشر مقالاته النقدية، التي ضمها لاحقاً في كتاب"أمواج وأثباج". ومن كتبه الأخرى:"في معترك الحياة"،"وتلك الأيام"،"الحياة بين الكلمات"،"حمزة شحاتة ظلمه عصره"،"حكاية الفتى مفتاح". وفي العام 1975 أسس مع مجموعة من الأدباء البارزين"نادي جدة"الأدبي، وترأسه لأكثر من عقدين. وواجه النادي في عهده تحديات وأوقاتاً عصيبة، في مناخ مشحون بالعداء للحداثة ولما يقدمه النادي من نشاطات يغلب عليها الطابع الحداثي. وفيما كان المثقفون يطرحون اسمه مراراً، نموذجاً لرئيس النادي الذي ينبغي على الرؤساء الآخرين أن يحذوا حذوه، ودّع منصبه، تاركاً"كرسيّ"النادي لمن يستحقه من بعده. وجاءت استقالته استقراءً للحركة التجديدية التي يقبل عليها المشهد الثقافي في السعودية، في ظروف شبه حتمية. واعتبر كثير من المثقفين ان استقالته تتسق مع مسيرته الشخصية والثقافية، الحافلة بالإنجازات المهمة التي سجلها في كتابه"حكاية الفتى مفتاح"وهو يمثل صورة مضيئة من صور النضال الأدبي والكفاح الثقافي، وصراع الذات مع نفسها، من أجل تغيير المصير، وكتابة تاريخ جديد للذات والواقع معاً. ما كان للأسماء المرموقة في الأدب والنقد الحداثيين، من الذين عملوا معه أن تقدّم ما قدمته، من دون أن تحظى بثقته ومؤازرته وتشجيعه. وممن عملوا معه من الأسماء البارزة: وكيل وزارة الثقافة الناقد عبدالعزيز السبيل الذي يصف أبو مدين بالرجل الذي"لا يريح ولا يستريح". ويقول إنه"حين يتم الاتفاق على إنجاز ما، فإنه لا يقبل أعذاراً من الآخرين. فهو يتيح لمن حوله إتمام العمل بمتابعة دقيقة، وحين يشعر بالتقصير، فإنه يتولى زمام الأمر، لضمان نجاح ما أقدم عليه. وحين يثق بمن حوله، وهي ثقة لا تأتي إلا بعد خبرة في التعامل، وحدس مستقبلي، فإنه يعطيهم كل الصلاحية في التخطيط والإنجاز، لكنه يظل يتابع بدقة ووعي كل إنجاز يشرف عليه". والناقد عبدالله الغذامي يؤكد تميز أبو مدين"في قدرته على تهشيم المفارقات". والغذامي الذي كان نائباً لرئيس"نادي جدة الأدبي"طوال عشر سنوات مضت، يرى في ذلك مفارقة،"فأبو مدين رجل ينتمي إلى المؤسسة التقليدية من حيث سنه، ومن حيث تركيبته العلمية والنفسية، بينما أنا - كنت حينها شاباً متخرجاً للتو من بريطانيا - ذو تكوين حداثي ومتطلع إلى أفكار حديثة. وهذه مفارقة كانت تؤهل إما لخصومة وإما لمواجهة غير حميدة بين رئيس النادي ونائبه. ولو افترضنا الصورة المعتادة لمثل هذا الأمر، للزم انسحاب نائب الرئيس وهو حداثيّ، أمام المواقف التي يفترض أن يتبناها الرئيس التقليدي، غير أن الذي حدث نقيض ذلك، فأبو مدين على رغم عدم حداثيته فتح قلبه وعقله وناديه لرياح التغيير، وللفكر الجديد، من دون أن يؤمن به شخصياً. لكنه كان مؤمناً بحرية التعبير وحرية التفكير، فصار النادي منذ ذلك الحين منبراً فكرياً وثقافياً لكل الأصوات. ولولا هذا لما بقيت في النادي أنا شخصياً. يقول الناقد سعيد السريحي:"لعله ليس اعترافاً متأخراً إن أكدت أن حماسة عبدالفتاح أبو مدين، ومثابرته وجدّه في العمل يعود لها الفضل الأول والأخير في ما حققه"نادي جدة الثقافي"من نجاح امتد على طوال ربع قرن. كان مخلصاً لما آمن به، متماسكاً في الوقت الذي لم يصمد فيه كثيرون فتراجعوا عن إيمانهم ولم يواجهوا الهجمة الشرسة التي كادت تطيح بپ"نادي جدة الأدبي"أكثر من مرة. قلت يوماً: إن تاريخ حركتنا الثقافية إن لم يحمل اسم أبو مدين في أول سطوره، فإنه سيكون تاريخاً غير صادق، وغير مخلص. كان يقول دائماً إن في مكتبتي كتباً تحتاج عمراً لكي أقرأها، فهنيئاً له بما سيفعل، فهو الآن يستطيع أن يردّد كلمته التي كان يردّدها دائماً وهو صادق فيها"أنا سيد نفسي". وتتطرق أستاذة الأدب الإنكليزي والنقد في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة الأكاديمية لمياء باعشن، إلى دور أبو مدين تجاه المرأة الكاتبة، فتقول:"نحن كأعضاء في"نادي جدة الأدبي"لمسنا توجه أبو مدين نحو التغيير والمشاركة، فهو فتح لنا باب النادي للحضور والمساهمة والنقاش والكتابة ثم العضوية الفعالة. ونحن مهما شكرنا له فضله هذا، فلن نوفيه حقه، لأنه كان جريئاً في قراره حينذاك جرأته الآن في قرار الاستقالة. لذا أثمر قراره الشجاع فتح القاعة النسائية في النادي التي تعدّ الأولى من نوعها في السعودية، وتشهد حضوراً ثقافياً واسعاً للمرأة الواعية لفكرها ودورها في الحياة الثقافية. ولم يكتف يوماً بحضورنا الجلسات الثقافية، بل ظل يدفعنا إلى الأمام مطالباً بعطاء أكثر".