تكرّر في تغريداتٍ لي في حسابي أو حساب مجمع اللغة الافتراضي منذ سنوات مصطلح (لهجات أرض المنبع) أو (لهجات بلاد المنبع) وفُهم مرادي من مصطلح (المنبع) في أوساط اللغويين، ولكنّ بعضهم يسأل عن ماهيّته وحدوده ومستنده اللغويّ والتاريخي والجغرافي، وهو سؤال مشروع، ويلزمني الجواب لدفع الغموض أو اللبس. فأقول: لا يجادل أحد في أنّ منبع عربيةِ القرآنِ هي جزيرةُ العرب، قلبُها وأطرافُها، ويشمل ذلك اليمن وعُمان والسواحل الغربية والجنوبية للخليج العربي، لكنْ يقتضي واجب العلم وما نعرفه من تاريخ لغتنا أن نخصّص في الفصاحة ونذكر أنّ لقريشٍ ومن جاورها يدًا طولى في انتخاب الأفصح من قبائل الحجاز وتهامة والسراة ونجد جيلا بعد جيل؛ فيمكن القول بعد ذلك: إنّ الصريح في أرض المنبع للعربية القرآنية هو: نجد والحجاز والسّراة وتهامة. وقد نزل القرآن في تلك الدّيار بين ظَهرانيهم، وكان رسولنا محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم أفصحَ العرب، ولغته لغةُ قريش. قال ابنُ فارس في (الصاحبي 33) في باب القول في أفصح العرب: «أجمَعَ علماؤنا بكلام العرب، والرُّواةُ لأشعارهم، والعلماءُ بلُغاتهم وأيامهم ومَحالّهم، أنّ قُرَيشاً أفصحُ العرب ألسنةً وأصْفاهم لغةً؛ وذلك أنّ الله جلّ ثناؤه اختارهم من جميع العرب واصطفاهم، واختار منهم نبيَّ الرحمة محمداً -صلى الله عليه وسلم- فجعل قُريشاً قُطّان حَرَمِه، وجيران بيته الحرام، ووُلاتَهُ. فكانت وُفود العرب من حُجاجها وغيرهم يَفِدون إلى مكّة للحجّ، ويتحاكمون إلى قريش في أُمورهم. وكانت قريشٌ تعلّمهم مَناسكَهم وتحكُمُ بينهم... وكانتْ قريشٌ مع فصاحتها وحُسن لغاتها ورِقَّة ألسنتها، إذا أتتهُم الوُفود من العرب تخيّروا من كلامهم وأشعارهم أحسنَ لغاتهم وأصفى كلامهم. فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى نَحائزهم وسَلائقهم الّتي طُبعوا عليها. فصاروا بذلك أفصح العرب».. وقال في باب القول في اللغة التي بها نزل القرآن (الصاحبي 41): «حدثنا أبو الحسن عليُّ بنُ إبراهيم القطَّان قال: حدثنا عليُّ بن عبد العزيز، عن أبي عُبيد، عن شيخ له، أنه سمع الكلبيّ يُحدّث عن أبي صالح، عن ابن عباس، [أنه] قال: نزل القرآن على سَبْعة أحرُف، أو قال: بسَبع لغات، منها خمسٌ بلغة العَجُزِ من هَوازن، وهم الذين يقال لهم علُيا هَوازن، وهي خمس قبائل أو أربع، منها سَعدُ بن بكر وجُشَمُ بن بكر ونَصْر بن مُعاوية وثَقيف. قال أبو عُبيد: وأحسِبُ أفصَحَ هؤلاء بني سعد بن بكر وذلك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أفصَحُ العَرَب مَيْدَ أنّي من قريش، وأنّي نشأت في بني سعد بن بكر»، وكان مُسْتَرْضَعاً فيهم، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العَلاء: أفصح العرب عُلْيَا هَوازِن وسُفْلَى تميم. وعن عبد الله بن مسعود أنه كانَ يَستَحِبُّ أن يكون الذين يكتبون المَصاحف من مُضَر. وقال عُمَر: لا يُمْلِيَنَّ فِي مَصاحِفِنا إلا غِلمان قُريش وثَقيف. وقال عثمان: اجعلوا المُمليَ من هُذَيل والكاتبَ من ثقيف». ورُوِي عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ (الفاضل 113) أنه قال: «أفصحُ الناس أَزْدُ السَّراة». وقال أبو عَمرو بن العلاء (المزهر2/ 483): «أفصح الناس عُلْيَا تميم وسُفْلَى قيس». وقال أبو زيد (العمدة لابن رشيق 89): «أفصح الناس سافلة العالية وعالية السافلة، يعني عَجُز هوازن». وقال السيوطي في ( المزهر 2/ 410) : «قال الأصمعي: قال أبو عمرو بن العلاء: أفصح الشعراء ألسنا وأعربهم أهل السَّرَوات وهنّ ثلاث، وهي الجبال المطلّة على تِهامة مما يلي اليَمن، فأولها هُذيل، وهي تَلي الرّمل من تِهامة، ثم عِلية السَّراة الوُسطى، وقد شَرِكَتهم ثقيف في ناحيةٍ منها، ثم سَرَاة الأزد؛ أزد شَنُوءة، وهم بنو الحارث بن كعب بن الحارث بن نَصْر بن الأزْد. وقال أبو عمرو أيضا: أفصح الناس عُلْيَا تميم وسُفْلَى قيس. وقال أبو زيد: أفصح الناس سافلةُ العالية، وعالية السافلة، يعني عَجُز هوازن وأهل العالية أهل المدينة ومن حولها ومن يليها ودنا منها». وهذه القبائل التي توصف بالفصاحة في نصوص علمائنا تؤيّد ما نذهب إليه من أنّ أرض المنبع هي نجد والحجاز والسراة وتهامة. ثم يضاف إليها ما يليها من نواحي اليمن وعمان والساحل الغربي لخليج العرب، لكنّ القبائل في جزيرة العرب تفرّقت وهاجر بعضها، وفشى اللحن في النحو وفي بعض التصريف، وبقي المعجم سليمًا في الأعمّ الأغلب، وهنالك بقايا للهجات فصيحة نجدها اليوم في شمال جزيرة العرب (بادية العراق وسوريا والأردن وفلسطين) ولهجات فصيحة مهاجرة في شمال أفريقيا (بادية ليبيا وتونس وشرق الجزائر ويلحق بهم موريتانيا) ولهجات مهاجرة غرب البحر الأحمر (صعيد مصر وبادية السودان) وفي تلك الأمصار قبائل عربية صريحة حافظت على مخزونٍ لفظيٍّ نحترمه ونأنس به حين يوافق ما في لهجات المنبع. وأما البعد التاريخي، ومنه عصور الاحتجاج، التي يقولون إنها انتهت بنهاية القرن الثاني أو منتصفه في الحاضرة ونهاية القرن الرابع أو منتصفه في البادية، فإن هذا القيد الصارم يصلح لحال النحو وقواعد التصريف بلا ريب، ولا يصلح لحال المعجم، لبقاء الوحدات المعجمية سليمة على ألسنة الناس؛ لأنّ المعجم هو أساس اللغة وجوهرها، ولا يمكن الاستغناء عن الألفاظ، وفساده يعني فساد اللغة في جوهرها، وهو اللفظ والمعنى، وقد تمسّك الناس بالوحدات المعجمية (الكلمات) واستغنوا عن الإعراب، وصلح لهم حال الاتصال اللغوي مجردًا منه، وحين نفتّش في العمق لعصور الاحتجاج يظهر لنا تخفف العرب من الإعراب منذ العصر الإسلامي على الأقل، فلم تكن العرب تلتزم الإعراب في كل أحوالها، فربما اختلسوه أو سكّنوا في كلامهم في سحابة يومهم وهم يمارسون حياتهم، بعيدا عن المحافل ومناسبات الشعر التي تتطلب الحضور اللغوي في أزهي صوره، فمنهم من يعرب، ومنهم من يختلس، ومنهم من يترك الإعراب، كما يُفهم مما جاء في بعض المصادر. وعلة ذلك أنّ المعنى عندهم أكثر أهمية من الإعراب؛ وقد يُحصّلون مرادهم في لغة الاتصال اليومي من دلالة المفردات وترابطها في الجمل وبالتقديم والتأخير والتنغيم دون الحاجة إلى الإعراب، وكان الإمام مالك بن أنس يتكلّم في شأنه اليومي بلغة خطابٍ دارجةٍ لا إعراب فيها. نعم، لقد فُقِد الإعراب في الكلام مع تعاقب الأجيال واندثرت سليقته، وتمارض التصريف ولكنه لم يمت، وأما المخزون المعجمي فبقي حيّا على ألسنة العرب وفي عقلهم الجمعي، فينبغي حين ننقّب عن الفائت ونمارس عملنا في الاستدراك على معاجمنا العراقية أن نراعيَ الثوابت والمتغيّرات وألا نتعصّب لأيّ زمان ومكان ولا بيئة ولا قبيلة، وعلينا في هذا المشروع المعجمي أن نسعى لأنْ يكون نشاطا علميًّا ممنهجا، وهذا يقتضي التعامل مع أحوال المكان والإنسان والبيئة والتركيز على ما نجده قريبًا من أصوله في بيئةٍ كانت منبعَ اللغة في عصور الاحتجاج، وعلينا أن نحترم ما نجده في جمعٍ من القبائل أو البيئات، وألا نردّه بسكوت المعاجم عنه مع علمنا نقصها وعدم إحاطتها، ومما يعيننا أنّ في المنبع اليوم أكثر من أربعين قبيلة بدوية محافظة على أصولها، وألفاظهم متاحة للباحثين في المستدرك على ضوء المعايير المعلنة للفوائت الظنية، مع الاستئناس بما يُسمع في بلاد العرب مما يلتقي بلغة المنبع. ** **