أن تكون عميقًا أي أن تملك نظرةً ثلاثية الأبعاد للعالم، أن تسبر أغوار الفكرة وتُمنطق الحَدث وتتأمل السبب وتستشعر جدوى النتيجة، أن تُشعل فتيل حدسك وتفكر خارج الصندوق، أن تكون مُتعبًا جدًا من كثرة التحليل المُرهق، حتى تتماهى في عمقك للحد الذي يعزلك عن دائرتك فتتجذر بداخلك غربة تفصلك عن كل شيء ما عدا عمقك. ولكن! هل يولد الإنسان مُفكرًا بالفطرة؟ مختومًا بعمقه؟ هل يُقال عن أحدهم (وُلِد عميقًا؟). أم أن قراءاته وتقلبه في بحر العلوم تجعله يصطبغ بهذه المسحة الفكرية والنزعة التحليلية؟ انطلاقًا من السؤالين أعلاه تضخمت استفهاماتي حول المفكرين، كيف تكوَّن عمقهم؟ فمدى الانفتاح الفكري والعمق التحليلي ليس مقصورًا على المفكر والعالم، بل قد نجد أُناسًا يفكرون بعمق واتساع ومنطق بينما يعيشون حياةً بسيطة، عادية، بعيدة عن الضوء وقد لا يملكون درجات أكاديمية أو هويات ثقافية تُذكر. وعلى النقيض منهم آخرين يغرقون في المعرفة ويقرأون الكتاب تلو الآخر بنهمٍ عظيم دون أن تجد لتلك القراءات أثرًا على وعيهم وفكرهم، بل ظلّوا عائمين على السطح، فأين الخلل؟ هل يتطلب الوعي والعمق استعدادًا جينيًا مسبقًا يزدهر بالقراءة والاطلاع؟ أم أن قليلًا من التركيز قد يصنع الفارق؟ أعود لأتساءل هل لأولئك البسيطين ما يميزهم عن غيرهم ليتسموا بالعمق؟ فتعود الدائرة بي من جديد إلى تساؤلي الأول: (هل يولد الإنسان مفكرًا بالفطرة؟). بالحديث عن العمق تتبادر القراءة إلى الذهن كمسببٍ رئيسي لنمو الوعي وسعة الإدراك، وبإحصاء أعداد القراء لن نجد أن سمة العمق تشملهم جميعًا، فلكل قارئ قدرة مختلفة عن الآخر في فهم النص وتأويله وتناوله، هناك من يقرأ سطحه وآخر يستخرج اللب ويقرأ ما بين السطور. إذًا ليس لكل قارئ عمق بينما استهلكت هذه المفردة للحد الذي لم يعد يلمع لها معنى من فرط استخدامها وصفًا وهذا بلا شك امتهانٌ لها. وعن مدى اهتمام الإنسان بتطوير عمقه، قرأت منذ مدة أحد المقالات وقد كانت تتحدث عن مجموعةً قصصية لباتريك زوسكيند بعنوان (هوس العمق) والتي تناولت قصتها الرئيسية تجربة فنانة تشكيلية تلقت ملاحظة من ناقد أخبرها بأن لوحاتها جميلة لكن ينقصها العمق، ومن هنا بدأت رحلتها الهوسية للبحث عن هذا العمق ومعناه وسبب غيابه عن لوحاتها حتى أصابها العجز عن الرسم ومن ثم الانتحار. تُرى لو أن أحد النقاد في وقتنا هذا تناول عملًا أدبيًا وما شابه لكاتبٍ ما ووصفه بالسطحية وافتقار العمق، فهل سيهتم الآخر بملاحظته ويحاول إيجاد العمق المفقود وتُستفز تساؤلاته؟ أم أنه سيتجاوزها دون أن يقف ولو قليلًا ليسأل نفسه ما هو العمق؟ وكيف أصل له؟ ولماذا أفتقر إليه؟ ** ** - حنان القعود