دائما وأبدا تفتح القراءة النوافذ المضيئة .. على العالم الفسيح والواسع .. خاصة إذا جاءت هذه القراءة للإبداع الحقيقي .. والفكر الخلاق، لا تلك القراءة لكتب لا تقدم جديدا .. ولا تهدي لك المفيد والممتع .. والعميق في آن .. ذلك أن القراءة قراءتان .. قراءة لما هو يومي وحدثي وعابر ومسلِ أيضا .. وقراءة أخرى .. تذهب بعيدا في قراءة الإبداع الإنساني في أبهى وأرفع تجلياته .. من شعر .. وقصة ورواية وفلسفة وتاريخ وفكر سياسي واجتماعي وفي الأديان والمذاهب .. والتصوف .. وهنا تتحول القراءة إلى فعل وعمل وممارسة ذهنية وتصبح بالتالي حالة من الحوار والسجال .. بينك وبين مع من تقرأ له وينبغي أن تكون كذلك .. وإلا أصبحت كقارئ مجرد مستلق ومتلقٍ تهبط عليك الأفكار .. والرؤى والمفردات واللغة والمعاني دون أن يكون لك رأي فيها دون وجود تساؤل أو مناقشة فيما تقرأه وتتلقاه وتتحول مع الزمن إلى مجرد مردد لأفكار هذا المفكر ونظرية هذا الفيلسوف وإبداع هذا الشاعر وآراء هذا المثقف .. هناك كتب تشعل فيك الأسئلة الكونية والوجودية والمعرفية وتضيء في عقلك وفيك قلق المعرفة .. فيما تجد كتبا أخرى بالمقابل تجعلك عند قراءتك لها متكلسا .. منغلقا وتجعلك بالمقابل نتيجة لهذه القراءة .. صغيرا في أفكارك وفي رؤاك وفي نظرتك للحياة والناس والكون .. وبقدر ما تكون الكتابة انعكاسا لما تقرأ .. بقدر ما تكون القراءة انعكاسا لما تفكر فيه وما تحلم به، ذلك أن المعرفة بمفهومها العميق شقاء .. أي أنه بحجم ما تعرف تشقى وبحجم ما تفكر تصبح أكثر شقاء وقلقا ومعاناة. من هنا كان قول الشاعر الحكيم والفيلسوف أبي الطيب المتنبي: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم ولكن وفي مقابل القراءة التي بقدر ما تضيء العقل .. وتشعل الأسئلة .. ينبغي أن تكون معها قراءة للواقع .. بكل ما يحمله هذا الواقع من قلق وتوتر .. ذلك أن معرفة هذا الواقع تقتضي معها معرفة الناس والواقع الذي يأتون منه وينتمون إليه .. وهو واقع يحمل من الثراء والغنى ما يجعل الكاتب والمبدع والروائي والقاص والفنان في حالة تواصل وتماس مع تحولات الحياة بمفهومها العميق وفي معيشها المتبدل والمتغير على الدوام. لكن هل المعرفة .. والقراءة محصورتان في قراءة الكتب وحدها .. وهل قلق المعرفة .. وشقاء العقل هما نتاج كل القراءة ونتاج ما نفكر .. وحجم ما تفكر وتعرف .. القول هنا بالنفي .. فالمعرفة لا يمكنها أن تكون معرفة حقيقية مالم تتصل اتصالا مباشرا بالواقع الذي تعيش فيه والوطن الذي تنتمي إليه .. وبمجمل الهموم والهواجس في القواسم المشتركة التي تجمع كل فئات وشرائح هذا المجتمع .. وبذلك لا يمكن أن تكون مثقفا حقيقيا .. مؤثرا وفاعلا في الواقع إلا من خلال الوعي الحاد .. والعقل الجاد بما يدور في المجتمع، في سطحه وفي قاعه معا.. وكذلك الإلمام بالمكون الاجتماعي والفكر السياسي والديني والعلمي والتعليمي والتربوي .. في هذا المجتمع، ومن هنا تصبح «المعرفة»شيئا آخر .. فهما آخر .. خاصة في ظل سطوة الثقافة الاستهلاكية التي تقوم على كل ما هو تافه وتسويق هذا التافه في كل شيء بدءا من المعرفة والثقافة والفن إلى تكريس قيم أخلاقية واجتماعية لا تعطي للإنسان قيمته ولا تمنحه الكرامة والاحترام، بل يتحول هذا الإنسان إلى سلعة .. وهو ما نراه اليوم بحيث تم تسليع الإنسان وتحول إلى مجرد كائن لا قيمة للعقل فيه. إن قراءة الواقع بكل سياقاته الاجتماعية والسياسية والثقافية تقتضي معها وعيا بالأفكار التي تحرك هذا المجتمع والأيدولوجيات التي تلعب دورا مهما ومحوريا في تشكيل وعي وثقافة المجتمع أي مجتمع ذلك أن حركة الوعي.. والثقافة هي ناتج.. لمنظومة القيم الاجتماعية والمعرفية التي تحكم مسار تفكير الناس الذين يمثلون واجهة وهوية المجتمع. وبقدر ما تصبح القراءة للكتب .. قراءتين.. قراءة لما هو عميق وحقيقي.. وقراءة لما هو هش وهامشي وعابر ويومي بقدر ما تصبح قراءة الواقع الاجتماعي والسياسي قراءات مختلفة ومتعددة .. قراءة تذهب بعيدا .. للعمق الاجتماعي والسياسي وتحولات الواقع بكل شرائحه وطوائفه وأطيافه والخروج برؤية تستخلص كل ما يمور ويدور في المجتمع .. في سطحه وفي قاعه، وقراءة لا تقف إلا على السطح فقط .. دون فهم المظاهر والظواهر التي تلعب دورا مهما ومفصليا في تكوين المجتمع. هناك من يمر بالحياة وتمر من عنده .. دون أن يفهم .. ويعي .. ويعرف هذه الحياة .. والناس الذين يصنعون أحداثها .. والذين يمثلون هويتها .. ووقودها وهناك من لا يمر بهذه الحياة إلا بعد أن يقرأها ويتفحصها ويتصفحها .. ويتحول بفعل ذلك إلى حكيم بها وبالناس .. وبالتاريخ. كيف يمكن لنا أن نفهم أنفسنا لنفهم هذا الواقع .. هذا المجتمع، هذه الحياة، كيف لنا أن نقرأ كل شيء .. حتى لا يمر هذا الشيء عابرا .. في حياتنا .. ودون أن نتحول نحن إلى مجرد عابرين في هذه الحياة .. إلى مجرد سلعة .. كيف .. هذا هو السؤال؟ للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 203 مسافة ثم الرسالة