جاءت هذه الأسطر لتكشف الستار عن حيثيات المعاني المضمرة في القصائد الموجهة للبنات، والآفاق الإنسانية المحلقة؛ ولهذا سأتجاوز معطيات الروايات التاريخية حول تعامل الجاهليين مع المرأة والبنت خاصة كالوأد مثلاً، على أنه تجدر الإشارة إلى أنه قد بولغ في هذا الحديث من قبل الباحثين؛ إذ أن المصادر التاريخية تشير إلى أن هذه الأفكار معروفة لكنها ليست ظاهرة؛ فالحياة تضم هذا وذاك. الابنة في خطاب الذات: «تمنى ابنتاي أنْ يعيشَ أبوهما وهل أنا إلا من ربيعة أو مُضَر. ونائحتان تندبان بعاقل أخا ثقةٍ لا عين منه ولا أثر. وفي ابني نزار أسوةٌ إنْ جزعتما وإن تسألاهم تخبرا فيهما الخبر. وفي من سواهم من ملوكٍ وسوقةٍ دعائم عرشٍ خانَه الدهرُ فانعقر. فقوما فقولا بالذي قد علمتما ولا تخمشا وجهاً، ولا تحلقا شعر. وقولا هو المرأ الذي لا خليله أضاع ولا خان الصديق ولا خدر. إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ومن يبكِ حولاً كاملاً فقد اعتذر» لحظة احتضار، تنسجم فيها الذات بالغياب ولا أدل على هذا من قوله «أبوهما»، «أخا ثقةٍ»؛ ليؤكد لهما أنه ميت لا محالة، وفي الحقيقة هو يؤكد أنه مات منذ أن شرع في الرثاء «لا عين منه، ولا أثر»؛ ولهذا هو ينتزعهما بكل حزم من لُجِ العاطفة، إلى رأس العقل؛ مُذكِراً إياهما برحيل من رحل من كل الطبقات، مختتماً حواره بنقطة الوقف التي تسد كل منافذ الحزن؛ ناهيٍ لهما عن خمش الخدود وشق الجيوب، والاكتفاء بعام من الدموع. والرسالة الكبرى هي أن اكتفاءهما بهما عنه أمر ينبغي أن يتم عاجلا. يبلغ الحب ذروته؛ إذا ظهرت فيه عزة الطرفين؛ إذْ لم نرَ أي ملمح يدل على ذوبان الأطراف ببعضها، بل كان في الحقيقة كل منهما في موقعه، فكيف وهو قد ربطهما بالمحيط الخارجي: «تسألاهم» «قوما فقولا» وحوارهما مع القبيلة. ونقف إجلالاً أمام النص إذا التفتنا إلى كونه يعمق فيهم الحياة الطموحة، ولا ريب فالحياة العملية تُجَفِّفُ منابع الأحزان؛ فحينما يوجه حديثهما إلى الملأ عن أخلاقه، هو في الحقيقة يوجهه لهما آملاً لهما الحياة الأفضل. وإن كان الموت يدُفع في بعض الأحيان كما فعلت ابنة سلامة بن جندل: «تقول ابنتي إنَّ انطلاقك واحداً إلى الروع يوماً تاركي لا أبا ليا. دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا من الحدثان والمنية راقيا. ستتلف نفسي أو سأجمع هجمةً ترى ساقييها يألمان التراقيا» إلا أن الأماني لا تطاوعها، بين غاية رفض الأب، ، ومنتهى عجز البنت: «دعينا من الإشفاق»، ثم يبرر ذلك بأن الموت حادث لا محالة إما لأنهم لم يذهب للغزو، أو لأنه قاتل مع المقاتلين، إذاً فلا حيلة لكِ في منعه. ومنتهى العجز الحقيقي نجده في قول الأعشى: «تقول بنتي وقد قربتُ مُرتحِلاً يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا. واستشفعت من سراة الحي ذا شرفٍ فقد عصاها أبوها والذي شفعا. مهلاً بُنَيَّ فإن المرء يبعثه هم إذا خالط الحيزوم والطلعا عليك مثل الذي صليتِ فاغتمضي يوماً فإن لجنب المرء مضطجعا واستخبري قافل الركبان وانتظري أوب المسافرِ إن ريثاً وإن سرعا» . هنا لم تعد الابنة قادرةً على محاورةِ أبيها فلجأت إلى شرفاء قومها، لكن النتيجة واحدة: «فقد عصاها أبوها والذي شفعا». هو يحاور: دعاءها صمتها، مُخفِّفاً ثقل القادم عليها بضوء أمل أنه سيعود قريباً أو بعيداً ؛ ولهذا طلبها أن تسأل الركاب عن خبره. ويبدو المعنى أكثر وضوحاً في مقطوعة بشر بن أبي خازم: «أَسائلة عميرة عن أبيها؟ خلال الجيش تعترف الركابا تأملُ أن أأوب لها بنهبٍ ولم تعلمْ بأن السهم صابا. فإن أباكِ قد لاقى غلاماً من الأبناءِ يلتهب التهابا. وإن الوائلي أصاب قلبي بسهم لم يكن يُكسى لغابا. فَرَجِّي الخير وانتظري إيابي إذا ما القارض العنزي آبا» فمن الواضح أنها كانت على أرض المعركة، فحين كان الحوار في النماذج السابقة في وقت هادئ، لم تزمع الرحال بعد؛ ولهذا جاءت هذه المقطوعة شفيفةً قريبة التعاطي مع روح الابنة، فهو يبدأ بهمزة الاستفهام استفهام تقريري فهو يثق بأنها ستسائل الركاب عنها ثم يردفه باسم الفاعل سائلة صيغة دالة على التحرك واستمرارية الفعل، فهي تخرج كل يومٍ تسائل الركاب، ويقرر موته، ويؤكده بتصوير عمق القِتْلة التي قتِل بها: في قلبه، موطن ابنته، وتصوير القاتل: شاب في مقتبل عمره، فارس لا يُقاوَم.