فهد بن حجيلان الخمعلي لندن هذا هو الصيف الأول لي في بريطانيا، أتلمّس مواطئ الأقدام، وأستنشق عبير الأسلاف المؤسسين لأبناء المملكة في عاصمة الضباب، ووريثة الامبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس، تخيم على المرء صورة العلامة الدكتور غازي القصيبي، قوية الإطلالة، تتأبى على النسيان. كل من يسير في شوارع هذه المدينة، يجد من آثارعبقرية هذا الراهب المنافح لأجل أمته، والذي جمع بين حسنيين، (السفارة والوزارة والدبلوماسيّة، وعبقرية الشعر)، بما لا تستطعه الأوائل، فكان له، بذلك، أن يبز أساطين عصره في اللغة والأدب والدبلوماسية والقانون. من الجنادرية وحتي صلالة، وإن شئت من المحيط إلى الخليج. في كل خطوة في الطريق، داخل بلاد الضباب، تحتفظ ذاكرة الأجيال الجديدة من أبناء المملكة بالكلمات التي خطاها وصورها في ديوانه قراءة في وجه لندن، التي لا تحب أحداً ولا تكره أحداً، فأول ما يجتاحك وأنت تسير في شوارعها وأزقتها، حبك للوطن، فتتذكر قوله:(وطني..أحبُّكَ حتّى التوحّدِ/ أنت رجائي.. ويأسي وبدريَ أنتَ.. وشمسي/ نخيلُكَ يغسلُ بالطلِّ رأسي/ ورملكَ.. نُقلي وكأسي/ أحبكَ حتى الثمالة) فكم مقلة بكته؟ قرأت آخر قصائده التي نعي فيها نفسه، والمرض يفتك بجسده العبقري:(أغالب الليل الحزين الطويل أغالب الداء المقيم الوبيل/ أرتل القرآن يا ليتني ما زلت/ طفلاً في الإهاب النحيل/ هديل بنتي مثل نور الضحى أسمع فيها هدهدات العويل) لكأنه يتمثل الصحابي المخضرم لبيد بن ربيعة وهو ينادي بناته بوصيته الشهيرة لما يجب فعله بعد الموت: (فقوما وقولا بالذي تعلمانه ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعرا) وتلك من وصايا النبوة بمنع الضرب واللطم بكاء علي الميت.لكم وددنا لو عاش شيخ الدبلوماسية دهراً، ما مللنا حكمته وأنسه، ولكن الموت حق وفي الذكر الحكيم (كل نفس ذائقة الموت) ومن قول طرفة بن العبد: (أري الموت يعتاد النفوس ولا أري بعيداً غداً وما أقرب اليوم من غد) سقي الله قبر شيخ الدبلوماسية العربية الدكتور غازي القصيبي.