في أول الأمر اعتقدت أن الرواية رواية اجتماعية بحتة، وإن كان العنوان يوحي باللمحة الدينية فيها.. اقتنيت الرواية وكانت المفاجأة لي أنني أمام عمل احترت في تصنيفه إلى حد ما، عمل يحتمي الفن الأدبي ويأبى أن يكون رواية خاوية عابرة، وجدتني أمام حكاية حب وأمام قضية جديرة بالتحقيق والتمحيص، وجدت وشاحاً أدبيا من الطراز العتيق، كان المؤلف يعرض القضايا بشكل متميز يعكس خلفيته الثقافية والأدبية, يملك خيالاً خصباً مع أنه وضع بعض القيود لنفسه ككاتب ليتم التفريق من قبل القراء بين الراوي والكاتب.. فمثلاً البطل شاكر.. أرى أن المؤلف يقيده ويزيد من التحفظ عليه لكني لا أجد لذلك تفسيراً واضحاً!.. هل لأنه من نفس بيئة المؤلف وخاف أن يلتبس على القارئ فيرى في شخصية (شاكر الراوي) (حمد الكاتب)؟!.. أي اندماج الشخصيتين معاً في شخص واحد. أجل! تنوعت الشخصيات الروائية وتعددت أدوارها وصفاتها: شاكر كان مغامراً حر الفكر والعاطفة، أبو دلف العجلي كان في قمة الإنصاف, يمثل الرؤية إلى قضية كيف ينظر العرب إلى عيوبهم وواقعهم الحالي وتاريخهم الماضي ومستقبلهم المفترض وكيف يجب عليهم أن يحاولوا تطوير أنفسهم علمياً وثقافياً وتكنولوجياً وسياسياً وأمنياً لتعزيز عروبتهم وترك الخلافات والنزاعات فيما بينهم لتوحيد جهودهم وتفنيد القول بأنهم مستهدفون لإلقاء اللائمة على غيرهم لتبرير ضعفهم وتشتتهم (جلد الذات) وتصحيح الكثير من التصورات الخاطئة والادعاءات المزيفة عن موقفهم وموقعهم من خارطة العالم الإنسانية. العبقرية في رسم ملامح (الشيخ ناصر) وتلازم المسرح الروماني أو بعض المشاهد السينمائية أثناء تمعن الكاتب أو الراوي في ملامحه. وهذه ظاهرة نفسية يستجيب فيها العقل لمحفز عشوائي ما يسمى ب«الباريدوليا» وكانت هذه الحالة تصيب البطل (شاكر) كثيراً ومن خلال هذه المشاهد وما شابهها كان هناك إعداد كامل لتاريخ الوجود اليهودي في المنطقة العربية منذ جذوره الأولى حتى وقتنا الحاضر. وهذه ملكة إبداعية ومعالجة معرفية وسياسية عجيبة تمتع بها المؤلف استطاع من خلالها تحقيق الهدف من هذا العمل الأدبي الضخم. لم يغفل الكاتب عن (التوثيق) أي المرجعية التاريخية أو العلمية التي استند إليها خلال مناقشته لمسائل تاريخية وثقافية وحضارية ودينية كثيرة أوردها لكن لم يكن على طريقة البحث العلمي (حواشي وهوامش).. بل كان يوثق ومن ضمن المتن ويعرف ويترجم، ولذلك لم تكن الرواية سرداً تاريخياً علمياً مملاً وإنما استطاع الكاتب استدراجنا عاطفيا مع (ليلى اليهودية) ولم يجعلنا ننظر إليها من خلال الرواية من منظور ديني, بل رأينا الأنثى الغاوية والماكرة التي جرجرتنا بكيدها وجذبتنا من بداية العنوان ومروراً بفصول الرواية حتى أخر صفحة فيها، وهي لا تلبث أن تُوقعنا في أفخاخ توقعاتنا وكأنها هي البطل ومحور القصة في حين كان (شاكر) بطلاً ثانوياً أو هكذا يبدو للقراء لخفوت شخصيته مقابل سطوع شخصية ليلى وانبهار القارئ بها!. عمل جبار اكتملت فيه العناصر الإبداعية ولو كانت كل رواية تكتب يكون لها رسالة وهدف هكذا لكانت الروايات التي يعج فيها الإنتاج الأدبي أكثر قيمةً ونفعاً بدلاً من الخواء والثرثرة وهدر المال والوقت، كانت الرواية تشرح القضايا الإنسانية بحيادية وإنصاف لدرجة قد يتوهم القارئ أن الكاتب ليس بعربي للفصل بين الذاتية والموضوعية: دفاعات أبي دلف العجلي عن نفسه كعربي كثيراً ما يحب الانتصار لنفسه حتى لو بالكلام. وفي النهاية لا أغفل الحديث عن أدوات الأدب التي وظفها المؤلف في هذا العمل مثل توظيف الشعر وتحليل الأبيات وشرحها وفقاً للمواقف التي كانت تمر بها الشخصيات. لقد كان فعلاً هذا العمل غاية في الدهشة, أسلوباً ولغة ومعالجة وفكرة وموضوعاً. هذه الرواية الرائعة لن تنصفها أبداً أو تصفها الكلمات ولا الحروف فهي مجهود عظيم لا يستهان به، وربما يستحق الحديث عنه مني فصولاً ومباحثاً فهي درة حظي بها الأدب السعودي لاشك في ذلك. من المقولات الواردة في الرواية والتي أعجبتني وعلقت في ذهني: «لست مهموماً بالسماء بقدر ما أنا مهموم في الأرض» «أنا عربي أنسى كثيراً» «لايهمنا يا سيدي لغة الوجوه حين ضيعنا ملامحنا».. ** **