شرفتُ باشتراكي مع أستاذي الكبير أبي أوس الشمسان في أكثر من مؤتمرٍ وندوة ومناقشة علمية، فألفيته بحرًا من العلوم، وموسوعةً ثقافية، لا تدري ما تخصُّصه إن لم تكن على علمٍ به قبل أن تخالطَه. ومن يطَّلع على سيرة أبي أوس العلمية، وعلى نتاجه الغزير الذي يصعب حصرُه حتى من قِبَلِه هو ليُدرك أنَّ الله قد منَّ عليه ببركة الوقت واستثمارِه، ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الصوارف، وفي مجتمع غارقٍ في المناسبات الاجتماعية وغيرها، مع أنه رجلٌ لا يعرف الاعتذارَ إذا ما دُعي إلى مؤتمر أو ندوة، أو مناقشة رسالةٍ علمية. وتصفَّح - إن شئت- سيرته، ونتاجه العلمي، والبلدان التي سافر إليها، والمناسبات العلمية التي سافر من أجلها. حينما كنتُ عضوًا من أعضاء هيئة تحرير (مجلة جامعة القصيم للعلوم العربية والإنسانية) قمتُ بإرسال بحث مقدَّم للنشر في المجلة إلى أبي أوس لفحصه وكتابة تقرير عنه، وكان هذا في إحدى ليالي الجمعة، وما إن فرغتُ من صلاة الجمعة حتى أرسلتُ له رسالةً مختصرةً على هاتفه المحمول، نصُّها: ((سعادة أستاذي الكريم أبا أوس. أرجو منكم الاطلاع على بريدكم، وكتابة تقرير عن البحث المرسل إليكم في مدة لا تتجاوز أربعة عشر يومًا)) ولم يمضِ على إرسال رسالتي إليه عدَّةُ ثوانٍ حتى كتب إليَّ يقول: ((تجدون التقرير في بريدكم حفظكم الله)) فظننتُ أنَّ في الأمر لبسًا، أو أنَّه لم يُعطِ البحث حقَّه من التأمل والفحص، فإذا بالتقرير في بريدي في اثنتي عشرة صفحة، ومن أفضل التقريرات التي وقفتُ عليها. أبو أوس يتحلَّى بأخلاق العلماء العظماء وتواضعهم؛ فلقد اشتركت معه قبل ثلاث سنوات في مناقشة إحدى طالبات الدكتوراه في جامعة الملك سعود، وكان ممَّا نبَّهتُ إليه الطالبةَ أنَّ كنية اللغوي (علي بن إسماعيل المرسي) (ابن سيده) بالهاء لا بالتاء؛ فذكرَ أستاذُنا أبو أوس أنَّ كتابتَها بالتاء، وأنّ الذين ترجموا لعلي بن إسماعيل نصُّوا على أنها منقوطةٌ بنقطتين من فوق، لكني شككتُ في معلومتي أمام قامة علمية، ولا سيما أني أحفظ كتابتها حفظًا منذ أيام الطلب الأولى، فلم أشأ أن أراجعَه في ذلك، وما كان ينبغي لي، ولكنَّه لكرمِه وسموِّ خُلُقه سارع في كتابة مقال في جريدة الجزيرة (السبت 9 صفر 1437ه العدد 479) ليذكر هذا الموقفَ، وليقولَ على مسمع من الملأ: ((القولُ ما قاله أستاذنا الحندود، فلعله يقبل أسفي واعتذاري عن خطأ ووهم لا أعلم كيف تمكن من نفسي هذا التمكُّنَ الغريب)). وكان يغنيه عن ذلك – عفا الله عنه- أن يتصَّل بي اتصالًا، مع أنَّ اللفظة محل خلاف، فمن المؤرخين من جعلها (ابن سيده) بالهاء الساكنة، ومنهم من جعلها منتهية بتاء التأنيث، فتكون على هذا ممنوعة من الصرف، لكنه أراد أن يُعطيَ طلاب العلم درسًا تطبيقيًّا في كيفية الرجوع والاعتذار، وأنهما لا يُنقصان من قدر العالمِ. وأحسبه - أيضًا- أراد تعميم الفائدة حول هذا الموضوع. ولأبي أوس فضلٌ ومعروف على كثيرٍ من زملائه وطلاب العلم، سواء أكانت تربطه بهم علاقةٌ أم لا، وكان يُحسن الظنَّ بالعبد الفقير كاتبِ هذه الأسطر؛ إذ رشَّحني لبعض المناسبات واللقاءات العلمية دونما علمٍ مسبق لديّ، وما ذاك إلا لإحسانه الظنَّ بالآخرين. وثمَّ جانبٌ آخرُ مهمّ، وهو أنَّ شيخَنا لا يدخل مؤتمرًا أو ندوة أو محاضرةً إلا وجهازه المحمول في يده، فهو مستثمرٌ للتقنية، متابع لمستجداتها، غير متقوقع على نفسِه كما هو حال كثير ممَّن هو في هذا العمر، الذين رفعوا الراية مردِّدين عبارة (راحت علينا)، فهذه العبارة وأمثالها من العبارات السلبية لا تجدها في قاموس أبي أوس، ولا يؤمن بها، ولا يفكر فيها مجرَّد تفكير. حبا اللهُ أبا أوس قلبًا طيبًا وروحًا مرحةً. جالسته كثيرًا فلم أسمعه يغتابُ أحدًا، إنْ ذَكَرَ أحدًا ذكره بخير، وإن ذُكِرَ عنده أحدٌ أثنى عليه. لا تخلو محاضراته وأوراقه العلمية ومناقشاته من النكت والملح الطريفة التي تضفي على الجوِّ العلمي الصرف شيئًا من المرح وتجديد النشاط الذهني لدى المتلقِّي، وطرد الملل، فالنفوسُ إذا كلَّت ملَّت، يُدرك ذلك من حظي بشرف حضورِ شيءٍ من محاضراته، واللقاءاتِ العلمية التي يشترك فيها. اللهمَّ وفِّقْه، ومدَّ في عمره على عملٍ صالح، في صحةٍّ في البدن وأمنٍ في الوطن. ** **