سعدتُ كثيراً بتلك التعقيباتِ الَّتي لاحتْ لي في المجموعاتِ العلميَّةِ، وسرُّ ساعدتي أنَّ هذا المقالَ لقي نقاشاً مفيداً عميقاً مؤيّداً له من أساتذةٍ فضلاء في أغلبِه، ونزرٍ منه لطائف سطحية تدورُ حولَه ولم تدخلْ، ودارتْ هذه التعقيباتُ حولَ أمورٍ، منها: أوَّلاً: العنوانُ يحملُ دلالاتٍ يدركُها المتمعنُ بما يلي: 1- ربطُ (السداسيِّ) ب (اللُّغويّ) أظهر المرادَ وهو من بابِ تسميةِ الكلِ بالجزءِ، وعلى هذا سارَ النَّحويونَ في تسميةِ أفعالِ المقاربةِ وغيرِها. 2- فيه أسلوبُ الإحاطةِ فلو ذكرتُ عدداً أقلَّ من ذلك لأوهم المتلقي بأنَّها أقل. 3- من الوهمِ تخصيصُ (السداسيّ) بالصَّرفِ، ليس ما شاعَ استعمالُه في شيءٍ لا يصحُ استعمالُه في شيءٍ آخرَ، ولا يُحكمُ بعدمِ استعمالِه إلَّا لأمرينِ: أ- استقراء كلامِ العربِ. ب- ورود نص صريح عن لغويٍّ يمنعُ هذا الاستعمالَ، إنَّما تعاقبتْ النصوصُ اللُّغويَّةُ على استعمالِ هذا المصطلح في غيرِ الصَّرفِ، هاك بعضَها: نقلَ ابنُ سيده عن الخليلِ قولَه: «ثوبٌ خُماسيٌّ وخَمِيس وخَمُوس: طوله خمسةُ أشبارٍ»، واستعمله عبدُالواحد الرويانيُّ بمعنى السنِّ في قوله: «الخماسيّ الربع والسداسيّ الطويل، وقيل: معناه بالسن ابن خمس سنين أو ست سنين، فإن قيل: السن ذكر الشافعيُّ الخماسيَّ والسداسيَّ ينطوي على ذكر السن». وأظهرَ ذلك نشوانُ الحميريُّ في شمسِ العلومِ: «ثوبٌ سداسيٌّ منسوب طوله ست أذرعٍ». وذكرَ رضي الدين الاستراباذي في شرح الكافية في باب الممنوع من الصَّرف: «يُستعمل على وزن فُعاَل من واحدٍ إلى عشرةٍ مع يائي النسبِ، نحو: الخماسي والسداسي والسباعي والثماني والتساعي». 4- لا يقف على بُعد هذا الموضوع إلَّا من أدركَ الرمزيةَ في المقالة، وتدورُ الرمزيَّةُ حولَ من يُخطّئ وجهاً من وجوه العربيَّة قد لا يعلمه أو ظهر خلاف ما يظنه أو لم يصله؛ لاختلاف اللَّهجات في العربيَّة وتعددها، وهذا يسهل على العربِ أن ينطقوا من كلماتها بلهجاتِهم، وظهر ذلك جلياً في بعض العباراتِ: «وجه من وجوه العربيَّة يُوسعُ حاجراً» و»وجه يظنُ أنَّه خطأ» و»وجه لم يصلْنا». ثانياً: هذه المقالةُ هي أنموذج من نماذج مرونةِ العربيَّةِ؛ لأنَّ العربَ ينطقونَ من كلماتِها بلهجاتِهم، ومَنْ يظنُ أنَّ المرونةَ لا تكون في العربيَّةِ إلَّا إذا كانت كل كلمةٍ فيها تحملُ أكثرَ من وجهٍ، فقد جانب الصواب، وهذا لا يتأتى لأيِّ لغةٍ من لغاتِ العالمِ، وهذا ضربٌ من المستحيلِ، هل تزعم أنَّك إذا أردتَ أنْ تحكمَ على مرونةِ العربيَّةِ عليك أنْ تستقصي جميعَ النصوصِ الَّتي تدلُّ على ذلك في مقالٍ لا يتعدى (400) كلمة! ثالثاً: الملحقُ بجمعِ المذكرِ السالمِ يُفصلُ عن الجمعِ في الحدِ ويشتركُ معه في الإعرابِ وعلاماتِه وأوجهِه؟! ونحن نتحدثُ عن الأوجهِ الإعرابيَّةِ، وهل يظنُ المتخصصُ أنَّ اللُّغاتِ إذا وردتْ في الملحقِ هي أقلُّ شأناً من ورودِها في الجمعِ؟! وليس هذا موطن فصلٍ بينهما، ألم يعلمْ أن لغاتِ العربِ كلَّها حجةٌ -كما ذكر ابنُ جنِّيِّ- في الجمعِ وما أُلحقَ به؟! رابعاً: لو عَلِم المتخصصُ بأنَّ المقالةَ هي مَنْ تُعبِّرُ عن فكرةِ صاحبِها لما توقف على المراد من قوله: (يوسع حاجراً) فلو عادَ إلى العبارةِ الَّتي قبلَها لظهر له المعنى المراد في قوله: «أسعده عندما أومأ له وجهٌ» جديدٌ لا يعلمه أو لم يصلْه. خامساً: لجمع المذكرِ السالمِ وما ألحق به ستةُ أوجهٍ حصرتها من خلالِ محددينِ هما: الإعراب وعلاماته أو ما حمل عليه وعلته، فمن أعربه بالحركاتِ الظاهرةِ على النونِ اختلفتْ عليه التوجيهاتُ على أنَّه جمع مذكر سالم معرب بالياء نيابة عن الكسرة، أو محمول على المفرد كتوجيههم (حدَّ الأربعين)، و(من أبِيِّين) ومن هذا المنطلق لا يمكن جمع هذه التوجيهات في وجهٍ واحدٍ؛ لاختلاف ما حُمل عليه وعلته، وسار على هذا الفصلِ محمَّد محيي الدين عبد الحميد وغيره. أعني: ما أُلزِم الياء وأُعْرِب بالحركات الظاهرة، وما حُمِل على جمع التكسير، وما حُمِل على المفرد، أوجه ثلاثة تتشابه في الإعراب والعلامة الإعرابية، وتختلف في الحامل والعلة، فلا بأس من فصلهم. سادساً: سارتْ المقالةُ على المنهجِ البينيِّ يَظهرُ ذلك جلياً من خلالِ الحديثِ عن اللُّغةِ ولهجاتِها والاستدلالِ عليها من قوانين النَّحو ومعاييره، لا ما يظنه البعضُ من أنَّه بترٌ في المقالةِ. سابعاً: قضية الاستشهاد بالحديث الشريف تحلَّل - برأيي- من جانب حرص العربي على صحة المروي، إذ لا يستشهد بالمروي بالمعنى وخير شاهد لذلك قول سفيان الثوري (إن قلت لكم إنّي أُحدِّثكم كما سمعت فلا تصدِّقوني) إنمَّا هو المعنى، والمتأمل لبعض الأحاديث يدرك هذه الحقيقة؛ لكونها تروى بأكثرِ من لفظٍ. ولكثرة رواية الأعاجم كما ذكر ابن جماعة وهو ممَّن أخذ عن ابن مالك:»قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنَّه ليس من لفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم- فلم يجب بشيء». وسَقَطَ الاستدلالُ به عند بعضِ المحدثينّ لجواز روايته بالمعنى وفي ذلك مناقشات مبنية على ما ذكره القدماء لا تخرج عنه، وتفسيرات تدور حوله. ولا يُحمل الاستشهادُ بالحديثِ على الاستشهادِ بالشعرِ- حتَّى لا يُفسر بالعاطفةِ- إذ ذكر أستاذنا أبو أوس إبراهيم الشمسان - في إحدى مقالاته - بأنَّ «كثرة الشواهد الشعرية لا لسهولة حفظها ولا لكثرة نصوصها، بل لكثرة ما يقع فيها من مخالفات يعاند فيها الشاعر ما جاءت عليه العربيَّة المشتركة المبنية على جمهرة الاستعمال العربي، وهو ما دعا النحويينَ إلى الاعتذارِ للشعراء بأن يقال إن هذا خاص بالشعر، وأن يقال إن هذا ضرورة شعرية، أو هو شذوذ في الاستعمال»، هذا كفيل بكشف حقيقة الضرورة الشعريَّة والاستشهاد بها. أمَّا الحديثُ الشريفُ فوضعتْ نصوصه لبيانِ أحكامِ الدين الإسلاميِّ سواء أكانت في المعنى أو اللَّفظ، فإن وافقت القاعدة النحويَّة لفظه يستشهد به، هذه حقيقةٌ يجب الانطلاق منها في مناقشة هذه القضية. وهذا هو المنهجُ السليمُ الَّذي سار عليه القدماءُ في الاحتجاجِ، وكذلك في جمعِ العربيَّة من القبائل المحددة. ** **