وأي حبيب ما أتى دونه البعدُ الإنسان حينما يعلم بوفاة صديق أو زميل غالٍ، فإنه يتأثر ويحزن كثيراً، كحزني على رحيل زميلي ورفيق دربي منذ بداية عام 1371ه الأستاذ الفاضل عبدالرحمن بن الشيخ عبدالله العبدان -أبو نجاة- الذي انتقل إلى الدار الآخرة مساء يوم الأربعاء 22-12-1438ه فأخذتُ أكفكف فيض دمعات عيني لعلو مكانته في قلبي فغلبني البكاء: فلستُ بمالك عبرات عين أبت بدموعها إلا انهمالا! متذكراً أول لقاء به وبشقيقه الأستاذ سليمان، وهما واقفان على مقربة من مباني دار التوحيد بحي (قروى) غربي مدينة الطائف في أول عام 1371ه -رحمهما الله- في انتظار بدء الدراسة في شهر محرم الذي مضى عليه ما يقارب سبعين عاماً: سبعون عاما قد تولت كأنها حُلوم تقضت أو بروق خواطف فسرعان ما نمت أواصر المحبة بيننا معهما، ومع بقية الزملاء.. لأن الغربة جمعت بيننا -فكل غريب للغريب أليف- ولقد وهب الله الأستاذ عبدالرحمن حسن المنطق وسماحة المحيا، ومحبة الناس له لسلامة صدره وطيب معشره مع جلسائه ومع زملائه ورفاقه: وإذا أحب الله يوما عبده ألقى عليه محبة في الناس وكنت أثناء مرضه أتابع الزيارة له على فترات متقاربة في منزله، وفي المستشفى للاطمئنان على حالته الصحية لقربه من قلبي حباً وتقديراً، وكان في استقبالي بنياته الكريمات، فهن بمنزلة بناتي -فلم يرزق أبو نجاة ذكوراً-، ولكن الله عوضه بنات صالحات فاضلات، وفي محكم الكتاب العزيز {لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} (11) سورة النساء، فهن ملازمات له طيلة مرضه في المستشفى وفي المنزل، فقلوبهن تعتصر ألماً وحزناً حينما شعرن بتدهور حالته الصحية، فأخذن يكررن نظراتهن نحوه نظرات وداع قبل غيابه عنهن الغياب الأبدي، ولسان حالهن يكرر معنى هذا البيت المؤثر: خُذا الزاد يا عيني من نور وجهه فما لكما فيه سوى اليوم منظرا! جبر الله مصيبتنا ومصيبتهن في وفاة والدهن، وآخر زيارتي له بمستشفى الملك فيصل التخصصي قبل وفاته بليلة واحدة، وكانت حالته حرجة وفي غيبوبة لم يشعر بنا -تغمده المولى بواسع رحمته- ثم انصرفت عنه وكلي حزن وأسى، وبخاطري ما به من لوعة حزن عميق، مُستحضراً قول الشاعر عبيدالله الميكالي: وكيف تلذ طعم العيش نفسٌ غدت أترابها تحت التراب وكانت ولادته -رحمه الله- سنة 1353ه في مدينة بريدة بمنطقة القصيم، وقد نشأ وترعرع أيام طفولته هو وشقيقه سليمان في نفس المدينة، ثم شخصا إلى الحجاز وتخرجا من المدرسة السعودية الابتدائية بالطائف عام 1370ه وقد سبقهما إلى دار التوحيد أخوهما الشيخ الفاضل عبدالعزيز -أبو فهد-، فواصل الدراسة بدار التوحيد حتى حصل على الشهادة الثانوية عام 1375ه، وعلى كلية الشريعة والتربية بمكة المكرمة عام 1379ه، وقد سعدت بالدراسة معهما عامي 71-1372ه في دار التوحيد بالطائف, وكان منزله -رحمه الله- ملتقى لزملائه وأصدقائه..، فالبعض يسكن عنده كأمثالي ومثل الزميل سليمان المضيان، خاصة في الإجازات الصيفية، فهو يقيم بالطائف مدة الدراسة قبل ارتباطه بالحياة الزوجية فكله لطف وكرم: حبيب إلى الزوار غشيان بيته جميل المحيا شب وهو كريم وبعد تخرج الأستاذ عبدالرحمن عُين معلماً بدار التوحيد عام 1380ه، ثم مديراً للتعليم بمنطقة جازان فترة من الزمن..، وقد سعدت بزيارته أنا وشقيقه سليمان فترة عمله هناك عبر الجو عام 81-1382ه فاحتفى بنا هو وزميل الدراسة بدار التوحيد الشيخ محمد بن عبدالرحمن البراهيم -أبو عبدالرحمن- قاضي محكمة جازان -آنذاك- ثم انتقل الأستاذ عبدالرحمن مديراً عاماً لبرامج التعليم الخاص بوزارة المعارف، إضافة إلى عمله مديراً عاماً مساعداً للبعثات والعلاقات الخارجية بوزارة المعارف، وعمل مديراً عاماً لشؤون الموظفين، وفي عام 1401ه لما أنشئ المجلس الأعلى للإعلام برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية -رحمه الله- اختار الأستاذ عبدالرحمن أميناً عاماً للمجلس واستمر فيه حتى تقاعد حميدة أيامه ولياليه. وله بحث مخطوط عن خدمات المعاقين بالمملكة العربية السعودية يستفاد منه حاضراً ولاحقاً على المدى البعيد..، حيث كلف بتأسيس قسم التعليم الخاص فأبدع في تأسيسه وتأصيله، والأستاذ عبدالرحمن له باع طويل في صياغة الأنظمة والأساليب التربوية.. ومعروف بين زملائه ومحبيه بالأدب والتواضع الجم وحسن الخلق -رحمه المولى- وكان أثناء دراسته بدار التوحيد بالطائف مثالاً في الجد واستذكار دروسه، وكان متميزا في النشاط الرياضي فهو عميد فريقه في مزاولة كرة القدم في ميادين - قروى -آنذاك- فكله لطف وحيوية: وياظل الشباب وكنت تندى على أفياء سرحتك السلام فأجواء الطائف أجواء جد ونشاط، وتنافس في استذكار المواد الدراسية، والتحصيل العلمي والأدبي، وتبادل الهدايا فيما بينهم، خاصة الكتب المفيدة والثقافية رغم شحها في المكاتب..، وإن وجدت فأسعارها مرتفعة بالنسبة للطلاب، وقد أهداني الزميل الحبيب عبدالرحمن تفسيراً للقرآن الكريم قيماً للنسفي أربعة أجزاء، وديواناً لبهاء الدين زهير جيد المعاني والأسلوب، وكنا نقضي الساعات الطوال في استذكار الدروس معه في المساجد لتوفر الإضاءة بها..، وأحياناً في أفياء سفوح جبل (أم الآدم) المطل على بساتين المثناة: تحية من ربى نجد إلى بلد قضيت فيه من الأيام أحلاها وما نسيت فلن أنسى مرابعها وسدرة كنت في المثناة أرقاها كما لا ننسى ذكريات الرحلات الجميلة في الداخل وخارج البلاد: منها الرحلة القصيرة بالمنطقة الشرقية ويوم في البحرين، بصحبة شقيقه الأستاذ الفاضل عبدالعزيز، والعم صالح بن عبدالعزيز العبدان، والرحلة الطولى معه ومع الزميل الراحل الدكتور حمد بن إبراهيم السلوم إلى الكويت، والعراق مرورا بالبصرة مواصلين السير حتى بغداد، وزيارة عدد من المدن مثل مدينة الكوفة ومدينة الحلة المجاورة لحدائق بابل المعلقة التي تُعد من عجائب الدنيا السبع قديماً، وظل التواصل معه -رحمه الله- عبر عشرات العقود، وتبادل الزيارات المتعددة حيث كان يشرفنا في حريملاء هو وعقيلته (أم نجاة)، وشقيقه الأستاذ الفاضل عبدالعزيز وأعمامه الكرام، وقد أهدانا العم أحمد الخطاط المشهور كتاباً يضم صورا من خطه الجميل على عدد من البيض، وبيضة كتب عليها ستين آية من سورة (يس) ما زلت محتفظاً بها، متذكراً أيامنا الجميلة معه ومع زملاء الدراسة بدار التوحيد.. وأرى الحياة لذيذة بحياته وأرى الوجود مشرفاً بوجوده فلو أنني خيرت من دهري المنى لاخترت طول بقائه وخلوده ولئن غاب عن نواظرنا «أبو نجاة» فإن ذكره وحبه باق بين جوانحي مدى عمري: ختمت على ودادك في ضميري وليس يزال مختوماً هناك تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم ذويه وأخويه محمد وناصر، وأبناء أخيه الشيخ عبدالعزيز، وعقيلته (أم نجاة) وبناته، وأسرة العبدان ومحبيه الصبر والسلوان.. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. ** ** عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء