فعندما أودع في باطن الأرض ووسد الثرى بعد صلاة عصر يوم الثلاثاء 21-2-1440ه بمقبرة (العودة) بمحافظة الدرعية، انصرفتُ مودعًا عيني من جثمانه الطاهر، وبداخلي ما به من لوعات الفراق الأبدي، فما لبثتْ عجلات شريط الذكريات تدور متذكراً أيامنا الجميلة، أيام الدراسة الحلوة في دار التوحيد بالطائف عامي 1371- 1372ه معه ومع بعض رفاق الدرب من الزملاء الذين غاب جُلهم، ومضوا لأمر عليه تتابع القوم الخيار -رحمهم الله جميعاً- وكنا نقضي أوقات فراغنا في استذكار دروسنا معه، ومع الزميلين الحبيبين: عبدالرحمن بن الشيخ عبدالله العبدان، وحمد بن إبراهيم السلوم في أحد المساجد ليلاً المجاورة للقسم الداخلي سكننا مَعشرَ الطلبة المغتربين، أما النهار فغالبًا ما تكون المذاكرة في أفياء سفوح الجبال المطلّة على ميادين (قروى) بعد صلاة العصر كل يوم حتى قُبيل دنو الشمس لمغيبها في خدرها..، وأحيانا نمرح ونلعب لدفع السآمة والكسل، فأوقات الطلاب في تلك الحِقب المتباعدة كلها جد ونشاط: وكثيراً ما نكون مع -أبي خالد رحمه الله- متقاربين ومتجاورين داخل الفصول على مقاعد الدراسة طيلة مراحلها..، وقد أستعين به في تصحيح بعض الأخطاء الإملائية لأني لم أدرس بالمرحلة الابتدائية، وكانت بداية تلقي مبادئ العلم عامي 69-1370ه على مشايخي الأجلاء: سماعًا ومُشافهة على يد سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وعلى شقيقه فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في حي دخنة بالرياض، وعلى يد فضيلة الشيخ إبراهيم بن سليمان الراشد قاضي محكمة الرياض وإمام جامع الإمام تركي بالرياض -آنذاك -رحمهم الله جميعا- كما لا ننسى رحلاتنا المتعددة معاً لحضور حفلات ومهرجانات سوق عكاظ السنوية بالطائف، بدعوة كريمة من أمير مكةالمكرمة صاحب السمو الملكي خالد الفيصل، ومشاهدة تلك الصور التي تمثل عِراك واجتوال أصحاب المعلقات السبع بل العشر الذين توافدوا من جوانب الجزيرة وأطرافها.. للتنافس والتفاخر لحصولهم على قصب السبق بجودة قصائدهم لدى المُحكم صاحب الخيمة الشاعر الفحل النابغة الذبياني، فهو ملتقى لهم كل عام..، وفي هذا الزمن أصبح موقعاً من أماكن السياحة يُؤم من كل جانب..، وفي تلك الفترة ننتهز الفرصة للسير على أقدامنا داخل البلد، متذكرين أداء صلوات الْجمع بمسجد الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه، وأحيانا في مسجد الهادي الذي يؤم المصلين فيه أحد طلاب دار التوحيد النجباء..، ثم المرور بتلك الأسواق والأزقة الضيقة حول المسجدين متذكرين أيامنا الأول والدار جامعة لنا معشر طلابها ...، ومترحمين على مشايخنا الأجلاء، ومن بقي من زملائنا: ولا أنسى هدايا (أبو خالد) وعقيلته الوفية معه، بإهدائي الطيب الفاخر من ورد الطائف الذي يعبق أريجه كلما نحضر ذاك المهرجان السنوي -رحم الله الغائب- وأسعد الحاضر منهما، كما كنا نفرح بصحبته في عدد كبير من المنتديات، والمناسبات الجميلة..، وبالرحلات خارج مدينة الرياض، منها على سبيل المثل: حضور جائزة الأمير الراحل خالد بن أحمد السديري بدعوة كريمة من أمير منطقة نجران الأستاذ الفاضل فهد بن خالد السديري وأخوته الكرام برعاية صاحب السمو الملكي الأمير المحبوب أحمد بن عبدالعزيز ليلة الخميس 18 شوال عام 1411ه وقد حضر جموع غفيرة من المشايخ والأدباء.. أمثال الشيخ عثمان بن ناصر الصالح، والشيخ عبدالله بن محمد بن خميس -رحمهما الله- وغيرهما من الضيوف..، وقد استمتعنا كثيراً بذاك الملتقى, وبالجولة في ربوع مدينة نجران بصحبة صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبدالعزيز، فقاموا مشكورين بالاحتفاء والتكريم لجميع من حضر، وهذا لا يستغرب على أنجال الأمير خالد السديري مودعين بالهدايا الفاخرة الثمينة: كذلك رحلتا وادي الدواسر في عامي 1427- 1428 ه عبر الجو في ضيافة الصديق الوفي الأستاذ الكريم عبدالله بن محمد الشدي -أبو أحمد- لتكريمنا ضمن نخبة منتقاة من الأدباء والشعراء ورجال الأعمال، تبوُدلت فيها أحاديث السمر وأشعار متنوعة.. إلخ، وإمتاع النظر في تلك المزارع الرحبة مزارع القمح التي يبلغ عدد محاور الرش بها أكثر من مائة رشاش محوري، وقد وصفتها في مقال سابق بأنها من أكبر المزارع وأوسعها أرضاً، فصادف وجودنا هناك يوم الجمعة 24-4-1428ه فتولى إمامة وخطبة الجمعة الشاب الأديب ابن الزميل عبدالله الحقيل الشيخ د. مساعد المحاضر في المعهد العالي للقضاء -آنذاك-، وكان موضوعها مفيدًا جداً حث العمال الذين يعملون في تلك المزارع على أداء الصلوات في أوقاتها، والإخلاص في أداء أعمالهم كي يبارك المولى لهم، فهو خطيب مفوه يملك زمام الفصاحة -وفقه الله- وهذه الرحلة الجميلة وغيرها من الرحلات كثيرة العدد في جوانب الوطن، وغيرها من المناسبات الجميلة سيمكث صداها ذكرى خالدة بين جوانحي مدى عمري، وهذا المقال تكملة لكلمة التأبين السابقة عن بعض الذكريات -تغمده المولى بواسع رحمته- وجمعنا به، وبوالدينا ومحبينا في دار النعيم المقيم إنه سميع مجيب. ** **