كأنَّ الوعيَ منقسمٌ بين هاويتين.. واحدة تكاد تختطفه إلى أدنى نقطة في الذائقة الأدبية عبر مطالعات الأسطر الراهنة المسطحة على الأوراق والشاشات حدَّ الموات، وأخرى توشك أن ترمي به إلى أحلك اسودادٍ في تلمّس مجريات الواقع الآنية المتسارعة على الأرض حدّ الخفقان. أقول في نفسي بين الهاويتين متمسكاً بما أظنه تبقى من وعي، في الحالتين، كان: كأنَّ الزمانَ ضريرٌ تربّى على حافةِ الشمسِ، يرجو التقاطاً لضوءٍ يشكّلُ وجهَ القمرْ! كأنَّ المطرْ ارتحالُ المسافاتِ مشطوفةً بالذيولِ من الأرجل المستبدّةِ كم ذا تبلَّلَ من كل كعبٍ بها الوعدُ حتى الذي كانَ منذُ التيقّظِ حتى السهرْ! وآهٍ على من تبقّى ينادي على قاربٍ كان يجري على النهرِ حتى تفككَ، صار حطاماً كمثلي تماماً.. وجئتُ وحيداً أحاولُ تركيبَ أخشابهِ من جديدٍ لتصلح جسراً يقاربُ دهراً بدهرْ؛ ولستُ أقولُ الحياةْ... لستُ أقولُ النواةَ، الممراتِ، حتى الشجيراتْ لستُ أقول سواها: الصلاةْ... فلا شيء غير انحنائكَ فيها، ملاذٌ لكلّكَ من كلّ تيهٍ يناديك فيكَ نداءَ الحذرْ. قد أستعيد لياقتي الشعرية وأكملها قصيدة، ولكن.. لي من القصائد منذ ربع قرن تقول ما أودّ قوله الآن؛ فلِمَ التكرار قولاً والقرونُ فعلاً تكرر نفسها كل ربع قرن؟! الوعيُ الآن منقسمٌ انقساماً حاداً ليس بين هاويتين مفتوحتين إلى هناك البعيد فحسب، ولا حتى بين سلالم ترتفع من ناحيتين إلى هناك الأبعد.. وكلا (الهناكين) - إذا كنا متفائلين – نعرفُ.. والتفاؤل الحقيقيّ لا ينبت إلا من جذور يئست حتى من التراب والماء والهواء؛ ولم يعد لها من مجال سوى النظر في عين الشمس. وفي شكل الأهلة تكتمل قمراً وتتناقص لتعود هلالاً يبعث التفاؤل بهلالٍ جديدٍ يدعو إلى السؤال: لماذا؟ منذ سؤالي الكبير الأثير (لماذا كبرنا؟) إلى الأسئلة التي باتت تصغر حتى صار أكبرها: كيف سنكبر أكثر؟! ولا نزال متفائلين بأننا نعرف. الأطفال.. قد تكون أمامهم فرصة للحاق بنا ما دام تساؤلنا قد أصبح واحداً، ولكن هل سيجدون الجواب لدينا؟ أم أننا سنجد الجواب لديهم يوماً ما؟ في الحالتين لن نعرف أكثر، لأننا بالأساس نعرف.. ولا أكثر! قيل عن اليوم الذي لا أحد يعرف متى سيأتي، أنه هو المسمّى (يوماً ما). فلربما يكون قد أتى بالفعل ونحن في حالة انقسام الوعي فلم ننتبه لمجيئه؟ أتمنى ذلك كخلاصٍ وأخشاهُ كإحساس؛ غير أن كل ما بين التمني والخوف معروف! فقط سأكمل ختاماً بأقصر فقرة قد تصلح إضافة لما كان سيكونُ مشروعَ قصيدةٍ اكتملتْ قبل سنوات طويلة.. اكتملتْ قصيرة؛ ويجوز لكل قصير أن يتمدد إن استطاع، مادام لم يصل من الطول حدَّ الانكسار، ولم تطوّعه انحناءاتُ المسافاتِ الطويلة أكثرَ مما هو بانحنائه لأقصرها الطائع: (عرفتُ بأنك تعرفُ أني وقفتُ على باب من فرّقوكَ على كلّ شارعْ وكنتُ أنادي عليكَ كأني أمدُّ وجوداً إلى كلّ ضائعْ).