أكثر من مفارقة لازمت، وتلازم، مسار عادل قرشولي: فهو واحد من ثلاثين شاعراً مثّلوا "أنطولوجيا الشعر الألماني"، التي ظهرت في الولاياتالمتحدة أخيراً، وهو الشاعر العربي الثقافة الذي لا يوجد له ديوان في اللغة العربية. وهو المنفيّ المنقسم، الذي لا يعود إلى وطنه، ولا يطمئن إلى البلد الذي استوطنه. ففي المكانين شيء لا يرتاح إليه، كما لو كان يبحث عن موقع ثالث يعترف بإنسانية الإنسان وحقوقه، ولا يحوّل صوته إلى سلعة بين السلع الأخرى. يعبّر الشاعر عن انقسامه الموجع فيقول:"بلغتين تصاغ الجملة . يداي تمسكان بالأشياء في عالمين. أمي تتحدّث معي في الحلم بالألمانية، وبالعربية تكلّمني زوجتي الساكسونية". لغتان تتقاسمان روحاً مغتربة، فلا لغة دمشق ترضي هواجس روح قلقة، ولا لايبزغ تحرّر الشاعر من حنين قديم. ولكن من هو عادل قرشولي؟ ربما يكون المدخل الأكثرُ بساطةً لقراءة عادل قرّه شولي هو ذكرُ ألقابِه وما يُعرّف به: فهو الشاعر، الذي استهل شعرَه، منذ أكثر من خمسة عقود، بقصيدة متفائلة، ترى إلى مستقبل يخلقه البشر، ويكون على صورة توقعاتهم. وهو الناقد المسرحي، الذي اكتشف معنى الإبداع المسرحي وهو ينجز بحثاً أكاديمياً عن الألماني الشهير برتولت بريشت، الذي ترك في عقل الشاعر آثاراً مستمرة حتّى اليوم. وهو الأستاذ الجامعي الألماني الذي عرّف بالأدب العربي بمناهج اختارها حرّاً، وهو المترجم الذي أسهمت ترجمتهُ الحصيفة في إعادة اكتشاف الجمهور الألماني لشاعر كبير هو محمود درويش، كما جاء في الصحافة الألمانية". ... سأله صحافي، لا ينقصه التشاطر، مرّة: هل أنت شاعر عربي أم شاعر ألماني؟ أجاب عادل الذي لا يتعاطف مع"الشطارة"والمتشاطرين: أنا عادل قرشولي. أراد الصحافي الإحراج وأراد الشاعر الحقيقة، فقد اختار إجاباتِه عن أسئلة الحياة طليقاً، وبذل الجهدَ المتواتر كي تأتي الإجاباتُ صائبة. والإجابة لا تريد الهرب، بل تهرب من لغة الخشب والأحكام الجاهزة. فبعد أن ولد وتربّى في دمشق دفعته"الاستثنائية العربية"، أي الكره الشديد للديمقراطية، إلى الهرب إلى بيروت،"سويسرا الشرق الأوسط"بلغة ماضية، ومنها إلى"برلين الغربية"، بلغة عتيقة أيضاً، ومنها إلى ما كان يدعى ب: ألمانياالشرقية، حيث عاش وتعلّم وعلّم في مدينة لايبزغ، التي أحسنت تكريمه أكثرَ من مرّة، ولا يزال يعيش فيها حتّى اليوم. ومع أنّ إدوارد سعيد أثنى على المنفى، ورأى فيه مجازاً للإبداع، فإنّ السر يقوم في المنفيّ لا في المنفى، وإلاّ لأصبح جميع عرب الولاياتالمتحدة نسخةً عن سعيد، ولغدا كلُ عربي يعيش في ألمانيا"عادلاً قرشولياً"آخر. وواقع الأمر أنّ في شخصية عادل طبقاتٍ ثقافية متعددة: فهو الكردي الأصيل المشبع بالثقافة العربية، أو أنّه التلميذ النجيب للثقافة العربية التي أخصبتها ثقافة كردية عريقة، وهو الكردي - العربي الذي استرشد بثقافةٍ ألمانية عقلانية، تحرّر العقل من بلاغة مفرطة وتحتفي باقتصاد القول والصور والمفاهيم، وهو المثقف الكردي - العربي - الألماني، الذي يعود، ولا يزال، إلى ثقافة إسلامية ويعيد تأويلها كما يريد... والواضح في هذا كلّه سؤال: الهوية الثقافية، الذي ينوس، عادة، بين انغلاق لا يحتمل وانفتاح خصيب. فلا وجود لهوية ثقافية أحاديةِ البعد إلاّ إن كانت هويةً ميّتة. ذلك أنّ الحوار الحقيقي بين الثقافة العربية والثقافة الألمانية لا معنى له إلاّ إذا تطلّع، وهو يعترف بالثقافتين، إلى ثقافة ثالثة تُسْتَوْلد من الثقافتين. فوراءَ كل ثقافتين متحاورتين ثقافةٌ أخرى، ووراءَ كل لغتين تتبادلان الكلام لغةٌ مغايرة محتملة، وفي كل شاعر حقيقي طبقاتٌ من الشعراء يرى فيهم آباءً له، ويودّ لو يكونون أبناءً له أيضاً. وواقع الأمر أنّ قرشولي، في مساره الحياتي والإبداعي، نص لا مركز له، طالما أنّه محصلة لنصوص متباعدة، تتحاور ولا تصل إلى صيغة أخيرة. وحال نصّه من حال هويته، تلك"الهوية المتنافية"، إن صح القول، التي تشكّلها وتعيد تشكيلها عناصر تتصادم وتتناكر وتسعى إلى تعايش، ينقصه السلام. فلو كان عادل قد وصل إلى ما يريد الوصول إليه لما كتب بالألمانية، ولماد عاد، وقد جاوز الستين، إلى نصوص التصوّف الإسلامي. ... أنا عادل قرشولي، يقول الشاعر الباحث عن ظل الحقيقة. فلا وجودَ للشعر، من حيث هو، فما يوجدُ هُم شعراء، أفراد لهم خبرات خاصةٌ بهم، يُغْنون قصيدة كونية، أو لا يضيفون إليها شيئاً على الإطلاق. ولهذا يطرح شعر عادل على قارئه السؤال التالي: هل هناك شعر صيني وآخر عربي وثالث ألماني ورابع سلافي مشغول بهواجس الروح؟ من المحقق أن شعر قرشولي إبداع متعدد الهويات يزيح الحدود الجغرافية - الثقافية جانباً، ويتعامل مع ثقافات مختلفة بعيداً من مفاهيم المرتبة والمقام والمسافة المتعالية. فلا وجود لپ"عرق مختار"يبدّد كرامة الأعراق الأخرى، ولا وجود لنص - أصل، محوّط بالسمو والرفعة، تصدر عنه أصول أدنى ماهية. وبداهة فإنّ هذا المنظور الإنساني لا يبدأ من الثقافة وينتهي بها، ولا هو بپ"التصوّر الثقافوي"المجرّد. ذلك أنّ في تجربة الشاعر العملية ما ينبذ ألوان الاضطهاد كلّها، جاءت من عربي يحتفي بصلاح الدين الأيوبي ويستنكر اللغة الكردية، أم جاءت من ألماني يستأنف أحكام هيغل عن استبداد الشرق وحكمة الغرب. ولعلّ هذه التجربة هي التي تملي على قرشولي ألاّ يصمت أمام النزعات الفاشية في ألمانيا، وألاّ ينسى فلسطينياً يُقتل قبل أن يغادر بيته، أو عراقياً تجزّ رقبته"الأرواح الفاضلة"وهو ذاهب إلى إلقاء محاضرة في الجامعة. وسواء انتسب إلى"المعلّقات السبع"، أو إلى تراث غوته العظيم، فإنّ الثقافة لديه هي القيم، التي تدور حول الإنسان، من حيث هو، وتتطلع إلى إنسان نوعي استعاد جوهره المفقود. هل الشعر هو المطلق، أو هل هو بحث عن مطلق لا يمكن الوصول إليه؟ وهل الشعر نبوّة أخرى، مثلما أنّ الشاعر نبي مغسول في زمن ابتعد عنه الأنبياء؟ لا شيء من هذا يشغل بال قرشولي منذ أن اختار أن ينظر إلى الأرض، وأن يرفع صوته"الهادئ"ضد ما يشوّه طبيعة الإنسان ويكسر أحلامه. وبسبب هذا كتب وهو يترك سوريا، مرغماً، في نهاية الخمسينات الماضية، عن الجهاز الظالم الذي يحرمه من رؤية أخته الصغيرة، ويمنعه، وهو الإسان المسالم، عن السير طليقاً في شوارع دمشق. وبعد أن آمن بالاشتراكية، ورأى، فرحاً، درباً ينقل الإنسان من مملكة الضرورة إلى مملكة الحريّة، توقّف من جديد أمام"الديالكتيك الغريب"، الذي استبدل بتحرير البشر صناعتهم، حيث على "الأرواح المصنوعة"أن تلوذ بجلال"القول الجماعي". وسأل من جديد: ما العلاقة بين ماركس وبريشت وپ"علم تصنيع الأرواح"، الذي هو استئناف لتقليد قديم، يذيب روح الفرد في مياه كدرة يشرف عليها مرجع عام؟ تساءل عندها عن دلالة الصوت والصمت، وعن الصمت الفصيح والصوت الذي يتلاشى في"صوت مقدّس كبير"ينوب عنه:"واحد ممن يفهمونني سمع صرخة رعبي ولم يصمت. لكن صمت الآخرين تعالى على صوته". مايز قرشولي الصوت الزائف من الصمت الناطق، مستعيداً تعاليم بريشت، ومستأنساً بشجاعة"فولكر براون"، الشاعر الألماني الذي لا يسلّع الرضا في أزمنة القمع، ولا يسلّع الصوت في المجتمع الاستهلاكي الموسع، ومستعيناً بپ"ما وْرَرَ"، الشاعر الذي حافظ على نبل الشعر، كما يجب أن يكون. زامل عادل مفارقته المتوالدة، مفارقة لا خروج منها، تنوس بين"وطن في الغربة"يجعل الإنسان خارج مكانه الطبيعي، وپ"اغتراب في الوطن"يقذف بروح الإنسان خارجه. فلا الوطن أرضى حقوق الإنسان البسيطة، ولا الغربة أرضت الغريب وما تطلّع إليه. ولعلّ هذه المفارقة، الموزّعة على السجن والسلعة، هي التي قادت قرشولي إلى تعاليم النفّري وغيره من المتصوّفة، من دون أن تقوده إليهم تماماً. أخذ من النفّري، في ديوانه"قال عبدالله لي"، الذي لم يكتمل، شكلاً من القول يؤمّن له غايتين: الكلام الذي يتيح توليد الكلام، إذ كل قول يُستكمل بقول آخر، وإذ كل سؤال ينفتح على سؤال، كما لو كان في القصيدة ما يحوّل الإجابات كلها إلى أسئلة مفتوحة تنهى عن كل جواب أخير. وتتجلّى الغاية الثانية في تأمين الحوار الذاتي، الذي يضع الإنسان أمام نفسه، فهو السائل والمسؤول، وهو المقيم داخل نفسه وخارجها، وهو مرجع الفضول والحكمة المؤجلة. مع ذلك فإنّ قرشولي، الذي لا يزال يلازمه صوت بريشت، رفض"فكرة الحلول"، التي تذيب الأنا في الآخر وتعمّم الصمت على الطرفين، لأنّ الصوت المفرد هو التناقض، والتناقض هو الحوار، والحوار هو الاحتفاظ بفردية مستقلة، تقبل بالآخرين ولا تذوب في الأثير الميتافيزيقي. يظل الإنسان هناك، ويظل كما كان وكما سيكون مغترباً، له أسئلته، وله تلك المسافة المتوالدة التي تمنعه عن"مماهاة"الآخر والذوبان فيه، لأنّ زوال الاختلاف هو الموت والنهاية. الشعر لا يغيّر الواقع، يقول عادل، فما يغيّر الواقع يحتاج إلى شيء آخر غير الإبداع. وليس الأخير، شعراً كان أو رواية، إلاّ شهادة على ما يجري، ترفض القائم، أو توحي برفضه، وقد ترسمه كما هو دون زيادة أو نقصان، لأنّ"المجتمع المتحقّق"لا يحقّق من أحلام الإنسان إلاّ قليل القليل. يقول عادل:"وقال عبدالله لي، يمينك غربةٌ، ويسارك غربة، أنت ترقص على حبلٍ". والحبل هو الإجابة المؤجلة، وهو ذاك الزمن المراوغ، الذي لا يأتي، الذي يبني وطناً لا غربة فيه ويمسح ولو بقدر، وجوداً إنسانياً يخترقه الاغتراب. * قام الشاعر السوري عادل قرشولي المقيم في ألمانيا بجولة على الأردن ولبنان، أحيا خلالها أمسيات شعرية ولقاءات. هذه الكلمة قدّمه بها الناقد فيصل درّاج في أمسية في عمان.