الذهب يقلّص خسائره.. الأوقية عند 2697 دولاراً    نائب أمير مكة يرأس اجتماع لجنة الحج المركزية    المنتدي الاقتصادي العالمي يبدأ فعالياته اليوم    ضبط مواطن مخالف للائحة الأمن والسلامة لمزاولي الأنشطة البحرية في المناطق البحرية للمملكة    نائب أمير الشرقية يستقبل محافظ الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة    الموارد البشرية تُكمل إطلاق خدمة "التحقق المهني" للعمالة الوافدة في 160 دولة    أمير تبوك ونائبه يواسيان أسرة السحيباني في وفاة والدتهم    "الخارجية الفلسطينية" تُطالب المجتمع الدولي بفرض عقوبات على المستوطنين    والدة الصحفي الأمريكي المختطف: تلقيت وعوداً جيدة وأنتظر النتائج    مركز الملك سلمان للإغاثة يوزّع قسائم شرائية للكسوة الشتوية على اللاجئين السوريين في الأردن    وزارة العدل: اختصار متوسط عمر القضية العمالية ل 20 يومًا فقط    نائب أمير تبوك يستقبل قائد حرس الحدود بالمنطقة    استخدام "الجوال" يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بنجران    شرطة الرياض تقبض على (9) أشخاص ارتكبوا (33) حادثة احتيال مالي    الإحصاء تُطلق مختبر الابتكار    رئيس الهيئة العامة لشؤون الحج والعمرة الليبي يزور حي حراء بمكة    الجنبية: أيقونة التراث الجنوبي ورمز الأصالة الجازانية    أمين الطائف يطلق مبادرة أحياء الطائف    حركية تتوج بالمركز الثاني في جائزة التميز لخدمة ضيوف الرحمن    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته لمراكز " قيا شقصان كلاخ والسديرة"    الأمير سعود بن نهار يطلق اعمال الورش التدريبية لمشروع معاذ بالهلال الأحمر    التحضيرات للسنة الدولية للتوعية بالكويكبات وحماية الأرض عام 2029م    «عكاظ» تنشر رحلة اكتشاف «المعادن» في السعودية    التهابات اللثة تعزز الإصابة بأمراض القلب والسكري والسرطان    وفد من الشورى يطلع على خدمات منطقة الحدود الشمالية    تحذير: الباراسيتامول يسبب مشكلات خطيرة للمسنين    يايسله يبحث عن انتصاره ال 34 مع «الراقي»    أمير الرياض يعزي في وفاة المباركي    الاتفاق يتربص بالأهلي.. والفيحاء والخلود «صراع الهبوط»    الشباب يضع عينه على كورتنين توليسو    نيمار يرفض الرحيل عن الهلال    ساديو ماني على رادار إنتر ميلان    متحدث الداخلية الأمني ل «عكاظ»: مسار ذكي في الجوازات لتسهيل عبور الحجاج    "العُلا" و"الابتسام" إلى نهائي كرة الطائرة الشاطئية    موضة البطانية !    حصة بنت سلمان: مدارس الرياض الحلم السابق لعصره    تتسبب في سجن رجل بريء لأن ملامحه أزعجتها    سان جيرمان ينافس الهلال للتعاقد مع محمد صلاح    نواف سلاّم القاضي النزيه رئيسا لوزراء لبنان    ميزة من واتساب لمشاركة الموسيقى في الحالة    نورة الفيصل ل«عكاظ»: «فنون التراث» تبرز الهوية السعودية برؤية عصرية    نصائح للكاتب الهازئ في إرباك القارئ    الصداقة بين القيمة والسموم، متى يكون التخلص من الأصدقاء ضرورة وليست أنانية؟    قصة «جريش العقيلي» (1)    التويجري رفعت الشكر للقيادة لصدور الأمر الملكي.. تشكيل مجلس «هيئة حقوق الإنسان» في دورته الخامسة    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية في وفاة الشيخ عبدالله الصباح    الجار    البرازيلي «ريتشارليسون» يقترب من دوري روشن    أمير الشرقية يرعى اللقاء السنوي للجهات الأهلية    التدخين والمعسل وارتباطهما بالوعي والأخلاق    شرب ماء أكثر لا يعني صحة أفضل    النجدي مديرًا لمستشفى الملك فهد في جازان    محمد سعيد حارب.. صانع أشهر مسلسل كرتوني خليجي    سكينة آل غالب إلى رحمة الله    «مسام» ينتزع 732 لغماً في اليمن خلال أسبوع    أمير الرياض يعزي في وفاة المباركي    الحب لا يشيخ    السديس: لحظة تاريخية استثنائية.. إطلاق أكبر هيكلة تنظيمية برئاسة الشؤون الدينية في الحرمين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمومة
قصة قصيرة
نشر في الجزيرة يوم 02 - 12 - 2017

كان يتأملني باهتمام بالغ من خلال إطار صورته الزهري اللامع . لحظات مفعمة بالمناجاة الصامتة . السنوات الثماني التي فصلته عني أنا بالذات تؤكد عمق فاجعتي بغيابه الأبدي . نظراته تحمل المعاني والإيحاءات التي كانت تثير في أمي انطباعات لم أدرك بواعثها تلك الأيام بوضوح ، وبوجه خاص يوم جاء يحمل صورته الملونة . جلس حيث أجلس الآن وكانت أمي في أقصى اليمين من حجرة « المعيشة » المستطيلة ، تحتسي قهوتها بإطراقتها الحالمة وبرودها .
قال وهو يرمقها :
أين ترين مكانها المناسب ، يا سلافة ؟
قبل أن أجيب سارعت ( هي ) بالقول :
ألا ترى معي أن غرفة نومك أنسب مكان لصورتك ؟ هكذا أجابت وهي تنحني لتناول « دلة « قهوتها الأنيقة ، وتبدو على فمها بسمة غريبة . بادلها أبي بافترارة ضيقة وهو يقول :
اقتراح ربما دل على خاص في ظاهر الأمر ...
ظاهر الأمر ؟ هل ثمة ......؟
لم يجعلها تكمل ، وبطريقته الفذة غيَّر مجرى المحادثة :
لكنك يا سلافة لم تقولي رأيك .. أين أضعها ؟
امتلأت حماسًا وأنا أشير إلى النقطة التي سارع بتعليقها فيها من الحجرة حيث هي الآن .
ركضت بخفة إلى حجرة الضيوف .
كانت « آسيا » هنا تقوم بتلميع شباكها الشروقي الذي يطل على جارنا الثري . كثيرًا ما أجد « آسيا » تعتني بهذا الشباك بصفة خاصة .
أجفلت وضربت بكفها على صدرها الفتي حين رأتني فجأة . حييتها ببسمة، وحملت مقعدًا خشبيًّا، وعدت بسرعة ، ووضعت المقعد تحت الحائط ، اعتلاه وراح يدق المسمار وأنا خلفه أسند المقعد بركبتي ، وأحمل إطار الصورة الذي استقر في موقعه حتى الآن . اختلست نظرات إليها أعني أمي لم أرها تعبر عن شيء البسمة الغريبة ذاتها ، الصمت ، وجرعات القهوة المتتالية وتلك الانحناءة التي تزيد في شموخ جسدها ... الآن أجلس على الكرسي نفسه وأبي يتأملني من خلال ذلك الإطار الزهري الذي بهت لمعانه قليلاً، وثمة غبار يستقر بين الصورة وإطارها الذي أخذ يتسع في عين ذاكرتي على مشهد ذلك الصباح:
هو يدق المسمار وأنا أسند المقعد بركبتي وأتأمل الصورة ..
وهي هناك تحتسي قهوتها بصمت وبرود .
المشهد الآن ناقص لكن ذاكرتي راحت تكمله بطريقة خارقة جعلتني موجودة في زمنين . في لمحة البصر عدت إلى زمني المبتور .
كانت هي ورائي كالطيف بلا حسيس . لمستني مداعبة في خصلة شعري وانسابت أمامي في طريقها إلى المطبخ فلم أتمكن من رؤية وجهها . عادت تحمل فطورها و« دلتها »، واتجهت إلى موقعها المعتاد ، جلستها المائلة وقميصها الوردي بانفراجته على ترائبها اللبنية ، هنا في هذه الزاوية يسطع مجدها الأنثوي الآسر ، وتتقارب روحانا دون عناق .
قالت وهي تملأ أول فنجان صباحي وصدرها يتموج تحت انفراجة القميص :
نمت مبكرة البارحة !
وصحوت مبكرة أيضا ، أشعر الآن بانتعاش وصفاء ...
مناسب جدًّا ، وراءك الليلة أعمال كثيرة ...
أعمال ؟
سلطان حضر البارحة وأنت نائمة ، قرر الذهاب إلى السوق الليلة وأنت معه لاختيار لوازم العرس من ذهب وغيره ...
أذهب معه ؟
وما المانع ؟ أنت الآن زوجته بعد عقد القران ، ولم تبق إلا الشكليات . أقترح أن أكون « معكم »
هذا يهمني : الخبرة والذوق . لفظت جملتي وعيناي تموجان في الدمع ومن خلاله رأيت البسمة الغريبة نفسها يوم تعليق ( الصورة ) طافية وسط قسمات غامضة . وجدت نفسي أندفع بالقول :
يحضر حينما أكون نائمة ، هذه ليست هي المرة الأولى ...
وبسرعة أدركت تهوري فاستدركت : هناك أمور لا بد أن أبحثها معه .
فمسألة البيت لم تحسم ،يتهرب منها دائمًا .
كانت بسمتها الغريبة قد انكمشت وأحسستُ أن وجهها قد ازداد ثقلاً على جسدها لم يكن ذلك محسوسًا . كان شعوري هو الذي يقيس ، وصمت أمي هو أبلغ أثرًا في حواراتها معي . مضت لحظات كالمسافة بين وخزتين ثم نطقت بنبرة من يقارع الحجة بحجة أكبر منها :
المسألة محسومة يا بنت « محمود » ... أعرف مدى غيظها كلما دعتني إلى أبي « مرحبًا يا بنت محمود، والله عنيدة يا بنت محمود ، أنت هكذا يا بنت محمود . وخففت من نبرتي حتى لا تعلو العين على الحاجب وقلت :
كيف ؟
بعد أيام العسل أنت مخيرة ، بين بيت أبيك ، أو يستأجر .. أنت تعلمين ضائقته . هنا بيتي وقلبي
أيضًا .
سكتُ أخشى الانزلاق في أخطاء أخرى . كان عمق الألم في نبرتها قد ألان شكيمتي . نهضت هي في داخلي بمعناها الفريد فوق ارتيابي.
قبل أن يحضر سلطان كنا جاهزتين . ارتدت ثوبًا ورديًّا، وعبقت الحجرة بعطرها المحبب . تذكرت الليالي الخوالي التي يعود فيها أبي من أسفاره، وكان ثوبي زهريًّا وفضفاضًا بعض الشيء .
وقفت أرتب شعري ، أحسست بأنفاسها تهفهف على صفحة عنقي :
كبرت يا سلافة !! فسرت انشراحها ب ..... والتقت عينانا في المرآة لقاءً خاطفًا . وجهها يبدو لي في كل الأحوال كاللوحة ، فريد وساكن ولا أثر للانفعالات على قسماته ، الغضب والمسرات والمخاتلة . أشعر حينما تمشي أو تتكئ أنها تنوء به كأنه قناع حقيقي من معدن مجهول ، يجعل عنقها مائلاً على الدوام وخطواتها وئيدة . أحس أنه يعذب جسدها جسدها الذي يتولى التعبير عن مشاعرها ضعفًا وقوة . تمثال خرافي في جزيرة موحشة .
ها هي أمام عيني مرة أخرى كما لو كنت أمام أحجية أمام الحياة . ضحكت متظاهرة بالدلال :
« سُنة الحياة » انزلاق صغير مرة أخرى . دست أصبعًا في شعري . شعرت برعشته . كبر شعوري بالإثم ، وغالبت دمعًا؛ كي لا ينهمر وتضع هي تفسيرات ....
رن الجرس ودخل سلطان . كانت « آسيا » هي التي تفتح دائماً . وحينما يكون الداخل هو سلطان تكون بالنسبة لي ( أنثى ) أمام ( ذكر )، والقرائن دائماً حاضرة .
حيَّاني ببسمة، واتجه إليها متسائلاً : هل نذهب ؟
جاهزون . أجابت دون أن تعيرني التفاتة ، حتى التفاتة .
خرجنا . كنت وراءهما السوق قريب ، وبدت « هي » متلفعة بعباءتها امرأة ضئيلة : مجدها في البيت . سرها هناك في ذلك الركن تحتسي قهوتها ، يكون جسدها هو الآسر داخل قميص نومها الوردي بالانفراجة الخالدة وبالعنق المائل والوجه الساكن على الدوام . وفي السوق انكشف انقياد سلطان وضعفي ورداءة ذوقي كان حسن الثقة هو الغطاء . هي تختار وهو يدفع وأنا أهز .. موافقة ، كانت دائمًا بيني وبينه ، أمنا الاثنين .
ليلة الدخلة قالوا لها : أختك « حلوة » سطعت وقالوا : الفرق بينهما ثوب الزفاف ، تحسست وجهي ، قناعي ، وهي بثوبها الوردي، ووجهها ذي السمات الساكنة ، وتلك الانفراجة . وحدي أنا أرى من بعد فيها ضعف الأرملة ، محاولات يائسة . عمتي كانت هناك . حضورها جدد ذكرى فقيدي الأعز ( أبي ).. رقصت، رقصت حتى فقدت وعيها كان جسدها المكتنز هو الذي يود الإعراب عن متاعبه وأثقاله ويا ليل طل . حاولوا مع أمي على الرقص ، خشيت أن تستجيب ، يسقط وجهها وينكشف الغموض روح معذبة في جسد مثقل . رفضت، لم أرَ وجهها وهي تقاوم .
لم يكن قلبي مشغولاً بغير سلطان وعقلي يفكر لصالحه أيضًا.
وفي أيام الزواج الأولى لم يكن عسلنا خالصًا من كل الوجوه . يجلس على الكرسي المواجه لصورة أبي ، وهي في ركنها الأبدي، ينهضان قبلي وفي حضوري .
يتحدثان ، يرسمان ، يختاران :
كيف يا سلافة ؟ أهز رأسي دائمًا . اليوم خرج سلطان مبكرًا انتهت الإجازة ، جلست منحرفة رثة شعثاء وهي تعاقر قهوتها اليومية . قالت : قومي استحمي وكلي فطورك ، أمامك عمل كثير .
سلطان دعا بعض أصدقائه للغداء .
لم يحدثني
لم تكن تحادثني بيسر سكت وفي قلبه زوبعة ، ثم انهمرت دموعي تكتسح خجلي ، وتعالى نشيجي ، انفصال حاد بين عقلي وانفعالي . هبت . المفاجأة أفقدتها وقار خطواتها الوئيدة ، جثت واحتضنت جسدي المرتعش:
سلافة ، سلافة .. ما بك ؟ وشدتني إليها بقوة . غمرتني رائحة الطلع وبقايا طيب ممزوجين بنكهة امرأة أربعينية . هناك عدت طفلة في ومضة خاطفة . قادتني إلى مهجعي ، أضجعتني وراحت تداعب شعري ، غفوت ثم انتبهت ، كانت قد تراجعت إلى ركن الغرفة المعتم ، رأسها بين ركبتيها تنشج في ضعف بشري لا يحتمل
ماما ......
** **


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.