في سنة 1979 كتب خالد أحمد اليوسُف نصه القصصي الأول. كانت تلك بداية، قادته وعبر قرابة أربعة عقود إلى الوفرة في كتابة نصوص قصصية، فضلاً عن الروائية. وكانت سنة 1984 قد شهدت ولادة أول مجموعة قصصية عنوانها (مقاطع من حديث البنفسج)، لتليها تباعاً مجموعاته، خصصها للكتابة بهذا الفن الحكائي الجميل الذي نذر له يوسُف حياته حتى جاءت مجموعاته القصصية لتصدر تواتراً، وهي: أزمنة الحلم الزجاجي (1987)، وإليك بعض انحنائي (1994)، وامرأة لا تنام (1999)، والأصدقاء (2004)، والمنتهى.. رائحة الأنثى (2008)، ويمسك بيدها ويغني (2010)، والجديد القصصي يستمر. وما يلاحظ ههنا أن يوسُف يلج عوالم القصة القصيرة كمشروع تبنّاه لنفسه وسار في دروبه بلا ملل حتى أتبعه، وابتداءً من سنة 2009، بالكتابة الروائية؛ فنشر روايته الأولى (وديان الابريزي)، ليليها بالثانية في سنة 2012، وهي (نساء البخور)، ومن ثم روايته الثالثة (وحشة النهار) في سنة 2013، لكنه كتب أيضاً الأقصوصة أو القصة القصيرة جداً منذ 2006، واستمر حتى 2013، بل وما بعد ذلك، لكنه جمع كُل نتاجه القصصي والأقصوصي معاً في مجلَّد واحد، ونشره في سنة 2015 تحت عنوان (يحدث أنْ تجْمع الحكاية أشتاتها)؛ لتضم 65 نصاً قصصياً، إضافة إلى 31 نصاً قصصياً قصيراً جداً أو (أقصوصياً)، وتلك خطوة مُهمة رغم أن اليوسُف سبق ونشر نتاجه القصصي في مجموعات مستقلة عبر سنوات ماضية. سرديّة اليومي تمتاز قصص اليوسُف بمحاكاة الواقع جمالياً فيما يقول، فهي واقعية بواقعية ما يجري فيه، لكنه اليومي يحتمل موقع الصدارة في أغلب نصوصه القصصية التي تنصرف إلى تسريد حالة الإنسان في يومياته؛ ولذلك ينفتح القص على واقع موضوعي بكُل ما يمور به من حراك ومواقف يصولها الإنسان بكُل ما له وفيه من تفاعل مع العالَم الخارجي. تقدِّم نصوص خالد اليوسُف صورة طرية العود للإنسان حتى يجد القارئ نفسه بإزاء واقع يومي يمشي بين الصور السردية التي تنقل حراك الإنسان بين الناس من جهة، ونفسه من جهة أخرى. وقد تكون تلك صورة للإنسان عامة، تقولها القصص، لكنها أيضاً تبدو خاصّة بالإنسان السعودي؛ ولذلك ثمة خصوصية مجتمعية تلج عوالمها التجربة القصصية لدى خالد يوسُف فيما كتب من نصوص حتى الآن. وهذا يعني أن سردية اليومي القصصية لا تنفصل عن الواقع - الواقعي الذي ينتمي إليه خالد اليوسُف سواء على الصعيد المجتمعي الذاتي (المحلي) أو الصعيد الكوني (الإنساني)، وهي تصنع متخيَّلاً سردياً جمالي الكينونة، يحرص على تحقيق معادلة الموجود الإنساني بين الذاتي الموضوعي، والمحلي والعالمَي في تمثيل (Representation) موجودية الإنسان في الوجود، وتقديمها على طبق من السرد إلى قارئ نصوصه. وهج أسلوبي تبدو مقاربة الواقع اليومي فيما يقول تفترض أسلوباً توصيلياً، يتناسب وحراك الواقع الذي تصوره قصص خالد اليوسُف؛ ولذلك جاء لغة السرد متماوجة مع الحدث المسرود، تهبط بالقارئ إلى لغة اليومي لترتقي به إلى مصاف جماليات السرد القصصي القصير والقصير جداً أو (الأقصوصي) من حيث التركيز والتكثيف، فضلاً عن التلميح وتوظيف الإشارة وما يكمن بين سطور النص لتوليد قراءة تتابع، ليس المعنى الذي تقوله كُل قصّة من القصص؛ بل الظلال التي تمور بها أسلوبية السرد؛ وبالتالي ما يمور به خطاب القص ذاته الذي يشتغل به اليوسُف في مشروعه الإبداعي. أما ما يتعلق بالفن الأقصوصي الذي كتبه اليوسُف فهو تجربة رائقة من الناحية الجمالية؛ فنحو 31 نصاً أقصوصياً يضمه مجلَّد الأعمال الكاملة توحي برصانة التوجه إلى هذا الفن الصعب الذي يتطلَّب من كاتبه براعة فنية ولغة مكثفة أكثر من مجرد كتاب قصة قصيرة، وهي قدرة جمالية أبداها اليوسُف فيما كتب بمنحى أخاذ لا يمله القارئ. وهاهنا نقرأ إحدى الأقاصيص التي كتبها اليوسف في يونيو 2012 تحت عنوان (العصف) بكل ما لها من قدرة إيحاء يشد القارئ إليها: (العصف) «تتحرك قدماه بتعثر وارتباك وتصادم، يقترب من الحائط للاستناد إليه، يشدّ من ظهره كي يبقيه معتدلاً، يلقي وراءه ما مرّ من كاهله من زمن متجاهلاً الأيام والليالي المتعاقبة في حسابها، متأمِّلاً حركة حفيده الأخير القريب منه وهو يحاول أن يقف على قدميه بعد حبو للحاق به». (ص 508). يضم هذا النص الأقصوصي خمس وحدات سردية، هي: 1. «تتحرك قدماه بتعثر وارتباك وتصادم». 2. «يقترب من الحائط للاستناد إليه». 3. «يشدّ من ظهره كي يبقيه معتدلاً». 4. «يلقي وراءه ما مرَّ من كاهله من زمن متجاهلاً الأيام والليالي المتعاقبة في حسابها». 5. «متأمِّلاً حركة حفيده الأخير القريب منه وهو يحاول أن يقف على قدميه بعد حبو للحاق به». يشارك في هذا النص شخصان من الفاعلين في بناء حدثيته السردية هما: «الشخص/ الجد»، و»الشخص الحفيد»، وكلاهما مذكَّر، وكلاهما له زمنه ومعيشه. وفي حين بقي الجد مكتمل المعيش الزماني لكونه بجسد متعب ومنهك حتى إنه لا يقوى على الصمود وقوفاً بدليل أنه يستعين بالجدار لكي يثبت وقوفاً بقامته، وكذلك بظهره للغرض نفسه من حيث تحقيق التوازن في الوقوف. يبقى «التأمل» الذي يصرفه الجد لحالة الحفيد الذي يبحث عن متانة عظماه لكي يقف بإزاء الجد محاكاة لقامته.. يبقى همزة العلاقة الزمنية بين شخصين، أحدهما جربته الحياة حتى عصفت بقوته، والآخر ما لا يزال يجرب الحياة لفتق بكارة الحياة ومقاومتها. هذا التماثل (Uniformity) في الحالتين إن هو إلّا تمثيل حقيقي للعصف الذي يجربه الإنسان في معاش الوجود الذي له، وقد تبدو الفكرة فلسفية يتصدى خالد اليوسُف لبنائها ضمن وهج سردية أقصوصية، لكنها تبقى شكلاً مُعاشاً من أشكال العصف الوجودي الذي يحيق بالإنسان. ** **