أنعم الله علينا بما لا يُحصى ولا يُعدّ من النعم، وأسبغ على الكون من جمال خلقه ما يأخذ بالعقل والبصر. فمهَّد الأرض وجملّها بكل جميل فوق اليابس، وتحت سطح الأرض، وتحت الماء. فهذه النجاد من الجبال الرواسي الشامخات، والهضاب والتلال، والحرَّات وهذه الوهاد من السفوح والأودية. وزيَّنها بالغابات، والصحاري، والكهوف والدحول، وملأها بعوالم أمثالنا من الأحياء، كالحيوانات المفترسة والأليفة، والطيور السابحة، والحشرات الزاحفة والطائرة. وأجرى على سطحها الأنهار، والبحار، والمحيطات الشاسعة، والشلالات المنحدرة والجنادل الوعرة، والبحيرات الواسعة والضيقة، والشعاب المرجانية ذات الأشكال والألوان، والموائل المائية التي تحوي أحياءً لا حصر لها، وغيرها الكثير فوق سطح الأرض أو تحت الماء. وتمتلك الدول موروثاً من هذه الموارد الطبيعية يقلُّ أو يكثر، بعضها يتمتع بميزات وقيم استثنائية يؤهله لأن يكون تراثاً طبيعياً ينبغي الحفاظ عليه، والعناية به، وتأهيله حتى يستديم بقاءه، وتستديم الاستفادة منه. والتراث الطبيعي أحد أقسام التراث الثلاثة، التي يتصدرها التراث الثقافي Cultural heritage، الذي صنعه الإنسان وتخلَّف عنه، والتراث المختلط أو المشترك Shared Heritage، الذي يجمع بين أصوله الطبيعية والتدخلات البشرية. والتراث الطبيعيNatural Heritage، الذي حددته التوصية المتعلقة بحماية التراث الثقافي والطبيعي على الصعيد الوطني، التي أقرها المؤتمر العام لمنظمة اليونسكو في دورته السابعة عشر، التي عقدت في باريس في المدة من 17 أكتوبر إلى 21 نوفمبر 1972م، وكذلك اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي، التي تم إقرارها واعتمادها في الدورة السابعة عشرة للمؤتمر العام لليونسكو في باريس عام 1972م، في مادتها الثانية، على أنه: - المعالم الطبيعية المتألفة من التشكلات الطبيعية، أو البيولوجية، أو من مجموعات هذه التشكلات، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة النظر الجمالية أو العلمية؛ - التشكلات الجيولوجية، والمناطق المميزة التي تؤلف مواطن الأنواع الحيوانية أو النباتية المهددة، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر العلم، أو المحافظة على الثروات؛ - المواقع أو المناطق الطبيعية، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر العلم، أو المحافظة على الثروات، أو الجمال الطبيعي. وبهذا يشير التراث الطبيعي إلى المعالم الطبيعية، والهياكل والتشكلات الجيولوجية، ومواطن الأنواع الحيوانية أو النباتية أو البحرية، أو مواطن التنوع البيولوجي، التي تتميز بقيمة استثنائية من وجهة النظر الجمالية أو العلمية، أو ما تحتويه على ثروات طبيعية ينبغي الحفاظ عليها. وجميعها، إضافةً إلى ما تمثِّله من موارد اقتصادية يستغلها الإنسان ويستفيد منها في تلبية احتياجات ومتطلبات حياته، فإنها تشكّل قوام السياحة البيئية، التي تعتمد على استكشاف المعالم الطبيعة والبيئية، وما يصاحبها من أنشطة، مثل: رحلات السفاري، وإقامة المعسكرات والتخييم، والسفاري، والغوص، وسباقات الهجن والدراجات البخارية، وتسلق الجبال، ورحلات استكشاف ومراقبة الحياة البرية من حيوانات، وطيور، ونباتات وغيرها من الأنشطة. وهو ما يساهم في الحفاظ على مصادر التراث الطبيعي واستدامة تنميتها. وتمتلك المملكة العربية السعودية تراثاً طبيعياً ثريَّاً، على امتداد جغرافيتها الواسعة، يتنوع هذا التراث ما بين البيئة البرِّية بتضاريسها ومعالمها الجيولوجية، والبيئة البحرية الممتدة على سواحل البحر الأحمر والخليج العربي. وكلاهما يضمان تشكيلة متنوعة من موارد التراث الطبيعي، منها التشكيلات الصخرية ذات الطبيعة الجمالية الاستثنائية، وكذلك الظواهر الجيولوجية السطحية من جبال ومرتفعات، وتلال، وأودية، وصحاري، وكثبان رملية، والظواهر الجيولوجية الجوفية، ومنها الكهوف والمغارات الطبيعية. إضافةً إلى النظام الإحيائي والموائل الحيوية المتمثلة في الغابات، والمحميات النباتية والحيوانية والبحرية، والشعاب المرجانية، والجزر والسهول الساحلية. وأكثرها ذات طبيعة استثنائية يستحق أن يكون دعامة في التنمية المستدامة في المملكة. هذا التراث، بثرائه، وامتداده، وما يمتلكه من مقومات سياحية بيئية، ومقومات اقتصادية، قد يتعرض في بعض الأماكن لمخاطر طبيعية ومهددات بشرية، منها السيول الجارفة، والحرائق، والصيد الجائر، والاحتطاب، وسوء الاستغلال والتشويه المتعمد وغير المتعمد، وجميعها وغيرها قد يؤدي بمرور الزمن إلى تعرض موارد هذا التراث للتلف والتشوه، أو الضياع. ورغم ما تقوم به هيئة المساحة الجيولوجية مشكورة من رصد وتسجيل ودراسة علمية لبعض الظواهر الجيولوجية المميزة أو الاستثنائية، مثل الكهوف، والدحول، والتكوينات الجيولوجية فإن التشكيلات الصخرية المميزة ذات الطبيعة والجمال الاستثنائي، مثل صخرة الفيل في العلا على سبيل المثال وغيرها، في حاجة إلى مزيد من الاهتمام التوعية بها، والنظر إليها على أنها مقومات تراثية جديرة بالحفاظ عليها وتأهيلها وتهيئتها وتزويدها بما تحتاجه من خدمات حتى يمكن الاستفادة منها واستثمارها سياحياً. وكذلك ما تقوم به الهيئة السعودية للحياة الفطرية مشكورة في حماية الحياة الفطرية، النباتية والحيوانية، فإن الشعاب المرجانية والسهول الساحلية في حاجة إلى مزيد من الاهتمام والتوعية بها، ومزيد من برامج استغلالها سياحياً. والجهد البشري قاصر بطبعه إلا أن التعاون والمشاركة من الجهات المختلفة، ووجود إدارة مستقلة معنية بهذا التراث على وجه الخصوص قد يساعد في الحفاظ عليه، وتنميته، واستدامة الاستفادة منه. والحقيقة أن هذا التراث الطبيعي المتنوع المقومات والمصادر، ما زال في حاجة إلى الوعي بأهميته والتوعية به، وأن يكون هناك مزيد من الإستراتيجيات والرؤى المعنية بكيفية الحفاظ عليه، وتأهيله وتطويره؛ حتى يمكن الاستفادة منه اقتصادياً، وسياحياً، واجتماعياً. ولعل في تطوير وتأهيل وادي حنيفة خير مثال على هذا. وتشكِّل موارد التراث الطبيعي قوام السياحة البيئية، والحفاظ على هذه الموارد، وتنميتها، وتأهيلها، يوفر فرصاً واعدة ومناخاً ملائماً لهذا النمط من السياحة، الذي لا شك سوف يساهم في تحقيق فوائد اقتصادية واجتماعية وثقافية عديدة. والسياحة البيئية يزداد الطلب عليها يوماً بعد يوم، وربما كانت أكثر وأسرع قطاعات السياحة نمواً، وتساهم بشكل كبير وفاعل في تنشيط الاقتصاد الوطني لكثير من الدول. وهذا النمو المطرد لهذا النمط من السياحة، يعود في الغالب إلى ما اتسمت به الحياة العصرية من تعقيد، وما اصطبغت به من تطور تكنولوجي، وازدهار صناعي، وزحف تحضري، وما صاحبها جميعاً من تأثيرات اجتماعية ونفسية سلبية مثل الضغوط، والتوتر، وكذلك تغيرات بيئية سلبية، منها التلوث الجوي والبيئي، وتضائل وانكماش المساحات الخضراء أو تلاشيها في بعض أحياء المدن، فلم يعد هناك متنفس لأهلها، من هنا كانت فرصة السياحية البيئية ونموها. وهذا النمط من السياحة يمثل مصدراً للدخل، وفرصة للأيدي العاملة، ومساهماً في تحقيق برامج التنمية، إضافة إلى ما تحمله هذه السياحة من عوائد ثقافية واجتماعية باعتبارها جسراً للتواصل بين الثقافات والمعارف ، وفرصة للتعرف على ما في الكون من ابداع رباني في الأماكن الطبيعية، والمعالم الجيولوجية، والبيئات أو محميات الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، وكذلك ما يصاحبها من تعرف على عادات وتقاليد المجتمعات المحلية المختلفة، وهو ما يقرِّب بين الناس ويعمِّق من قيمة التعارف بينهم. كل هذا وذاك يزيد من فرص ومحفزات السياحة البيئية ويجعل منها ضرورة عصرية، ويؤكد ضرورة الحفاظ على مقومات التراث الطبيعي والاهتمام بها وتنميتها باعتبارها قوام هذه السياحة. ولأجل هذا وغيره، تضمنت رؤية المملكة 2030 التي أقرَّها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -يحفظه الله- يوم الاثنين 18 رجب 1437ه الموافق 25 أبريل 2016، اعتماد قطاعات السياحة والتراث الوطني كأحد أهم العناصر الأساسية في رؤية المملكة 2030 وبرنامج التحول الوطني 2020، وأحد أبرز البدائل لاقتصادات ما بعد النفط.