علة وضعي أدب الرحلة في قائمة الكتب غير المرغوب فيها أنه أدب يشدك في صفحاته الأولى ثم يشعرك بالملل في منتصفه لانعدام الحدث ومن ثم انعدام التشويق الذي يجعلك تستمر في القراءة. وانعدام الحدث من طبيعة أدب الرحلة، لكنني غير مجبرة على تحمل طبيعة الأشياء. والآن أجدني أضع كاتبا في هذه القائمة، مع أن كتاب هذا الكاتب مليء بالأحداث والتشويق، ولدى الكاتب جميع فنيات الرواية من لغة وأسلوب وتشويق وتكنيك عال، لكنه يفتقر إلى أهم عنصر يحملني على قراءة الروايات وهو عنصر الإحساس. العنصر الذي نجده في نقد الفنون والإبداع من رسم وموسيقا وغناء وتمثيل، لا نجد له ذكرا عند نقاد الأدب الكتابي الذين خاضوا في كل ما يتعلق بالنص ولم يتركوا شيئا حتى رقم الإيداع أدخلوه في مباحث النقد وقالوا عتابات النص ودرجات وغرف النص ونسوا عنصر الفن الأساسي الإحساس. هذا الإحساس الذي غاب عن لجنة كاملة من النقاد والكتاب المرموقين، أعضاء لجنة جائزة البوكر، والتي يصلح أن نطلق عليها لجنة اللا إحساس. نعم، أدري أن توصيل فكرتي إلى القارئ وأنا لست بناقدة أدبية صعب، إذ كيف أقول إن الكاتب سعود السنعوسي الرائع الكتابة لا يستحق الفوز، وإن اللجنة التي منحته لقب الفوز لجودة روايته فنيا وأسلوبيا وموضوعيا بلا إحساس؟ موضوعي ليس رواية الكاتب التي فازت بالبوكر، موضوعي عن الإحساس المفقود في روايته الجميلة (فئران أمي حصة). ومن شدة عجزي عن توصيل فكرتي عن إحساس الكاتب، تمنيت لو أننا ممن يؤمنون بالفكرة أو النظرية القديمة موت المؤلف، لأن الإحساس ينبع منه كما ينبع من عبد الكريم عبد القادر حين يغني ومحمد الطويان حين يمثل، وبذلك أتخلص من شرح الإحساس في قصص صالح الأشقر، وأشعار حمد الحجي. وأتجاهل كما تجاهل النقاد ذلك في كل نظرياتهم التي ماتت، ومات معها نقدهم الأدبي. لقد قرأت 400 صفحة لرواية تتحدث عن موضوع شائك، وأحداث عظام وشخوص مختلفين في الطباع؛ وكأني أقرأ كتابا في الطبخ، أقصد من جهة الإحساس. لقد أثر عدم إحساس الكاتب على لوحة الغلاف، فالرسامة التي رسمت اللوحة إما لم تقرأ الرواية، وإما قرأتها لكنها مثلي تماما لم تحس بها، فرسمت لوحة بسببها اشتريت رواية فئران أمي حصة لأني حسبتها رواية كوميدية، وأنا أميل إلى الروايات ذات الحس الكوميدي، ولا يخفى على أحد الحس الكوميدي الذي يتمتع به كبار الكتاب مثل غابرييل ماركيث وتوفيق الحكيم. ويدلك على عدم إحساس الكاتب بما يكتب استخدامه في موقف المفترض يهز كيان كاتبه وقارئه (وهو موقف مغادرة سيارة الموتى بجثمان أمي حصة الشخص الذي تعلق به قلب الطفل البطل) كلمة (العجوز)، اقرأ النص على لسان الطفل البطل المفجوع بموت حصة؛ لتعرف أن الكاتب يكتب بلا إحساس «يرسلون نظراتهم وراء السيارة وهي تقل الجثمان تختفي آخر الشارع، تتبعها، إلى مقبرة الصليبيخات، سيارتا خالك حسن وأحد أقرباء العجوز» استخدام هذه اللفظة في هذا الموقف يدل على عدم إحساس الكاتب بالموقف. لو وضعت 400 صفحة من كتاب السنعوسي أمام فقط مشهد الصرصار المختبئ تحت السرير في رواية المسخ لفرانز كافكا المشهد الذي تجتمع فيه جميع أنواع الأحاسيس من حزن ورعب وضحك وتعاطف وحسرة، مشهد تراه روحك قبل عينيك، عيناك اللتان تتسابقان على قراءة أحداث فئران أمي حصة، تتعطلان وأنت تقرأ حال الرجل الصرصار، لأن هناك ما هو أكبر من الكلمات المصفوفة والأحداث المتلاحقة، هناك شعور بإنسانية مفقودة، أقول لو وضعت ذاك مقابل هذا، سيعرف نقاد الأدب إثم تعاميهم عن الإحساس في النص المكتوب، وتعلقهم برقم الإيداع. وإحساس الكاتب بما يكتب ينتقل ويبقى حتى في مسوخ الترجمات، فرواية جين أير لم تترجم كاملة إلى اللغة العربية إلا في ترجمة واحدة، وأن العدد الهائل في ترجمتها ترجمات مختصرة، ومع ذلك ومع كل هذه المسوخ، الإحساس القوي التي كتبت به ظل يظهر ولم يستطع مترجم القضاء عليه كما قضى على سطورها. لا أزال أذكر مشهدا –ربما هذا المشهد مذكور فقط في الترجمة الكاملة ومحذوف من الترجمات المختصرة- لأنه في نظرهم أو كما يقال مشهد لا يؤثر في سير الأحداث، وليس مشهدا يشبه مشاهد فئران أمي حصة المؤثرة في مجريات الأحداث والتي بالفعل أعجبتني وبهرتني مهارة كاتبها- هذا المشهد هو ربط البطلة شريط حذائها حين انحل وهي ترتقي درجات السلم بعد خروجها من صالة الاحتفال ولحاق البطل بها، هذا المشهد سيجعلك تعرف معنى الحب الحقيقي والعميق، وستشك في حب قيس وليلى، وروميو وجولييت. لماذا أثر فيّ هذا المشهد ولم يؤثر فيّ تفحم ضاوي، ولا بكاء البطل عند يأسه بعد احتراق العمارة المقر، ولا فقدان فوزية لبصرها. ولا مشاهد الطفلة، ومشاهد الأطفال تكون عادة مشحونة بالإحساس، وفجيعة عائشة بموت ابنها، لو استمررت في ذكر الأحداث الفاقدة إحساس الكاتب سأكتب ال رواية كاملة. وحتى أكون منصفة هناك مشهد وحيد (لمح البطل فوزية في زفاف فهد) كتبه الكاتب بإحساس وصلني فيه إحساس البطل، قرأته ببطء شديد، عندما تزاحم حواسُّك الأخرى حاسّةَ البصر لتقرأ معها ستضطر لتبطئة القراءة، وأعدت قراءته، والجميل أنك لا تدري ما مصدر الإحساس أهو الحزن أو الإحباط أو التعاطف؟ وأقوى المشاعر التي لا تستطيع تحديدها، ونجدها في بعض المشاهد المصوغة بأيدي بعض الكتاب الفائقين الإحساس، ومنها المشهد الختامي لرواية مئة عام من العزلة، المليء بإحساس الإحباط والملل والحب والاشمئزاز.