بعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانهيار المعسكر الاشتراكي، فإن الآليات المختلفة لنظام العولمة، المتمثلة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية تمثل القاطرة التي تقودها عمليًا الشركات العملاقة متعددة الجنسية (500 شركة كبرى)، التي ينتمي جلها إلى المراكز الاقتصادية الكبرى (الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي واليابان) وبعض الاقتصاديات الصاعدة وفي مقدمتها الصين. التساؤلات هنا: هل يوجد ترابط بين مفهومي العولمة والنظام العالمي الجديد (إحادي القطب حتى وقت قريب)، الذي جرى التنظير لهما من منطلقات ودوافع وأهداف متباينة؟ وبالتالي ما هي حدود الوحدة والتطابق، وحدود الفرقة والابتعاد، بين كلا المفهومين اللذين يتضمنان مدلولات اقتصادية وسياسية واجتماعية، وثقافية وقانونية، تعكس مدى التداخل والتشابك والالتباس الذي يكتنف هذه العملية ذات الاتجاهات المتناقضة، ثم ما إمكانية إيجاد حلول للمشكلات «المزمنة» التي اتخذت صفة كونية، تهم جميع البلدان، والتجمعات، والشعوب، في الآن معًا؟ وأخيرًا هل هناك مخرج آخر ترى فيه الإنسانية والشعوب بارقة أمل ونور في نهاية النفق المظلم الذي ترى نفسها فيه؟ ونشير هنا إلى تفاقم سلسلة من الأزمات البنيوية الحادة التي تعاني منها في المقام الأول ما تعرف ببلدان العالم الثالث، أو البلدان النامية، أو بلدان الجنوب لاختلاف مناهج التحليل الاقتصادي والسسيولوجي ونذكر هنا استفحال الفقر والبطالة والمجاعة والمديونية والأمية والمرض، واتساع الفجوة التكنولوجية والعلمية والاقتصادية، بين مراكز الاستقطاب العالمي من جهة، وبين الأغلبية الساحقة من البلدان والمجتمعات (الجنوب) الأخرى جراء فشل السياسات الاقتصادية والإنمائية، والاجتماعية وغياب أو ضعف مؤسسات المجتمع المدني، وتفاقم مخاطر البيئة والتلوث والتصحر، وانتشار بؤر الصراع، والعنف ذات الطابع الإثني والعرقي والديني، وما يصاحب ذلك من معاناة إنسانية، تطال العشرات من البلدان والمجتمعات التي رزحت طويلاً تحت الهيمنة الاستعمارية المباشرة سابقًا والهيمنة السياسية والاقتصادية الإمبريالية لاحقًا، وهو ما نشاهده في عديد من بلدان إفريقيا وآسيا (والشرق الأوسط من بينها) وأمريكا اللاتينية، الذي أدى إلى مصرع وتشريد عشرات الملايين من البشر، وانعدام أبسط مقومات الحياة الإنسانية، من عمل وغذاء وسكن وصحة وتعليم. في الواقع فإن الانقسامات، الفوارق، الأزمات لم تسلم منها حتى الدول الصناعية المتطورة فالهوة تزداد هناك، ما بين الأغنياء والفقراء وتتدهور أوضاع الطبقة الوسطى التي كانت تعد رمزًا للازدهار في دولة الرفاه (الكنزية)، وتتزايد على نطاق واسع، مشاعر الإحباط والتهميش والاغتراب والقلق إزاء المستقبل خصوصًا في ظل ما يسمى ب الليبرالية الجديدة التي اعتمدتها الرأسمالية بغرض مواجهة سلسلة الأزمات البنيوية التي تعصف بها، حيث تفاقمت البطالة وتعمقت أزمة تصريف الإنتاج محليًا وتدنت معدلات الربح في قطاعات الإنتاج وتزايد العجز في الموازنة العامة، ووصل الدين الداخلي والخارجي إلى معدلات خطيرة، وتردت معدلات النمو، والاستثمار، وعلى خلفية تلك الأوضاع اتخذت حزمة من الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية الموجهة ضد مصالح الغالبية من السكان، نذكر منها السعي لإلغاء دور الدولة في العملية الاقتصادية، وتقليص مسؤولياتها الاجتماعية وتخفيض الدعم المقدم إلى قطاعات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي، وتخفيف الضرائب على مداخيل الشركات الكبرى وتقليص نسب الفائدة لتحفيز الاستثمار، وفي موازاة ذلك وعلى خلفية تلك الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية المتردية تفجرت وتعمقت أيديولوجيا التعصب والكراهية من منطلقات قومية وعرقية ودينية في معظم المجتمعات الغربية مستهدفة بالدرجة الأولى ملايين العمال الأجانب (ومن بينهم العرب والمسلمون) الذين تصاعد عددهم بدرجة خطيرة إثر أحداث سبتمبر الإرهابية في الولاياتالمتحدة، وتزايد معدلات الهجرة من البلدان العربية والإسلامية التي تشهد صراعات وحروبًا أهلية دامية. يجري كل ذلك ضمن اتساع نطاق عولمة الإنتاج والتبادل والتجارة والمال وفي ظل ثورة الاتصالات، والمعلومات والمعرفة وإزالة الحواجز ضمن عملية تجنيس شامل للعالم اقتصاديًا وسياسيًا، وعسكريًا وأمنيًا وثقافيًا على أرضية اتساع الهوة ما بين المراكز والأقطاب الكبرى من جهة وما بين الأطراف والتوابع من جهة أخرى، وهو ما ينذر بتفاقم الاضطرابات الاجتماعية والسياسية في عديد من البلدان والمجتمعات خصوصًا في ظل خضوع تلك البلدان إلى شروط ومواصفات ومتطلبات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية التي تمثل الأذرع الأخطبوطية لهيمنة وسيطرة أممية «لرأس المال» ومصالحه الممتدة. فإذا كان الإرهاب والعنف المسلح الذي يستهدف أفرادًا وتجمعات تحت دعاوى سياسية أو أيديولوجية ويؤدي إلى وقوع ضحايا وأبرياء لا ذنب لهم أصبح محل إدانة شاملة من قبل المجتمع الدولي وكافة الدول والشعوب، فماذا نقول عن الإرهاب الاقتصادي المسلط على رقاب الأغلبية الساحقة من الشعوب، تحت عنوان تصحيح الاختلالات الهيكلية والمالية وتحرير التجارة والمال والسلع والخدمات في سوق غابية تنعدم فيها أبسط شروط العدالة والمساواة، وتغيب عنها مفاهيم الديمقراطية الاجتماعية، والندية الحضارية والثقافية؟ للحديث صلة..