السلفية المعاصرة يُمكن أن نقسمها إلى قسمين يتمايزان عن بعضهما، الأولى: (السلفية المشرقية)، والسلفية الثانية: (السلفية المغاربية). وهما في تقديري سلفيتان مختلفتان عن بعضهما ليس في المنطلقات الأساسية وإنما في ما تنتجان في النهاية من تطبيقات حياتية؛ حيث إنّ السلفيين المغاربة يعتبرون (الوطن)، بمعناه المعاصر الحديث، حاضراً وركناً ركيناً من أركان دعوتهم، ولا يهمشونه، ولا يعملون على تذويبه في كيان أكبر. السلفية المشرقية، وخاصة السلفية التي تأثرت بالإسلام الشمولي، الذي أطلقه الهندي «أبو الأعلى المودودي» ومن ثم المصري «حسن البنا»، لا مكان لمفهوم الوطن المعاصر في أطروحاتهم السياسية، ويعدّه بعضهم في أدبياتهم قطعة من تراب نجس، ويدعو إلى تطهيره بإذابة الفوارق الحدودية بين الدول الإسلامية لإقامة الدولة الأم الكبرى؛ بمعنى أنّ (الوطن) بحدوده وسيادته ومواطنيه، يعدّونه (قطراً)، ويدعون إلى إذابة القطر في الدولة الإسلامية الكبرى؛ أو كما يسمّونها (دولة الخلافة)، التي هي (الوطن) عند سلفيي المشرق، فالوطن لديهم يتمحور حول فكرة افتراضية، تتبع المسلمين حيث كانوا، وتمتد من طنجة وحتى جاكرتا. هذا التباين بين المشرقيين والمغربيين، يعتبره كثيرون من أسباب فشل ظاهرة الإسلام السياسي في المشرق، الذي خرج بكل توجهاته وفصائله من تحت طربوش «حسن البنا»، في حين استطاع الإسلام السياسي في المغرب، وإلى حد ما في تونس، النجاح والبقاء ومقاومة التآكل ومؤشرات الفناء، التي تمر بها اليوم كل الحركات الإسلامية المشرقية. وفي تقديري أنّ حضور مفهوم (الوطن) بمعناه المعاصر عند سلفيي المغرب، وانفتاحهم على الآخر ممن يختلفون معه، طالما أنهم يجتمعون معهم تحت سماء الوطن، هو من أهم أسباب بقاء هذه السلفية؛ والسبب في رأيي يعود إلى الاستعمار ومقاومته، وبالذات استعمار الفرنسيين العنيف، ومحاولاتهم الشرسة فرض الهوية (الفرانكفونية)، وإلغاء الهوية العربية والإسلامية، وهذا ما أثر تأثيراً محورياً في بعث هذا الانفتاح من قِبل التيارات السلفية المغاربية على الآخر الليبرالي، وكذلك انفتاح التيارات الليبرالية على الآخر السلفي، ما أدى إلى تعاضدهم سوية في مواجهة ومقاومة الاستعمار الفرنسي الشرس ومحاولاته طمس الهوية الوطنية . كما أنّ السلفية المغاربية والوطنية تُقر بأنّ الاختلاف الديني بين البشر لا يُلغي الاجتماع الإنساني والتعايش المشترك بينهم، انطلاقاً من مقولة لعلي بن أبي طالب تقول: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخُلق)، في حين أنّ السلفية المشرقية المتأخونة تضع الناس صنفين متناقضين، إما مؤمن أو كافر، المؤمن هم والكفرة من اختلف معهم. ولعل هذا الشأن بالذات ما جعل السلفية المغاربية تنأى بنفسها عن التكفير، وإخراج كل من لا يتفق معهم عن الملة، وهذا التباين في قبول الآخر جعل المغاربة أكثر انفتاحاً على الغرب المتمدن والاستفادة منه ومن علومه وما توصل إليه من منجزات، في حين أنّ السلفية المشرقية وقفت من الغرب موقف المناوئ الذي ترفضه رفضاً كاملاً، ومن هنا انبثقت (السلفية الجهادية) التي اختزلت الإسلام بقضه وقضيضه في الجهاد. كما أنّ السلفية المغاربية أكثر عقلانية واحتفاءً بالمنطق مقابل أنّ السلفية المشرقية نقلية، وليس في أدبياتها مكان للعقل؛ ولعل هذه النقطة بالذات جعلتها أكثر قدرة على التكيف مع الظروف والاستفادة منها، وبالتالي أقدر على البقاء.. إلى اللقاء.