ثم ما الذي يعنيه الصمت، وماذا يعني الكلام؟ تجلس بكتفين متهدلتين لا تنتميان إليك بعد انكماش جسدك، كأنك تلبس كتفي أخيك الأكبر، أو زميلك ضخم الجثة في المدرسة الابتدائية، يسخر منه الرفاق ضئيلو الأحجام ومن صوته المخشوشن قبل الأوان، ومن أقلامه التي تبدو بربع حجم الأصبع! ماذا تفعل هناك بين الركام سوى أنك تعيد مشاهدة التسجيل مرة بعد أخرى، آملًا أن تخض يأسك بنهاية مختلفة، رجّه كثيرًا كما تفعل بعلبة دواء السعال الشديد الحلاوة، الذي لا يفعل شيئًا غير أنه يزيد السعال سعالًا حتى تتمزق رئتك! هل تنوي نفض الغبار عن الصورة؟ هل تفكر بالتخلي عن إطار النافذة الذي تعلقه في رقبتك مثل برواز عتيق؟ هل ستجمع الحصى لتلعب مع ظلك «الزقطة واللقطة»؟ هل سترسم قبرًا وشاهدة؟ هل ستحمل مفتاحك الذي وصلته بسلسلة يتدلى منها علم إيطاليا، جلبتها من محل التذكارات الرخيصة على ناصية الشارع؟ هل رتقت حذاءك من أجل السير الطويل؟ هل سويت تجعيدات قميصك من أجل صورة أخيرة أمام ما تبقى من جدار البيت؟ هل شددت خيبتك جيدًا على خصرك؟ امضِ ولا تلتفت خلفك، لم يبق شيء، لم يبق أحد! -2- تترنم بما بقي لك من صوتك الأجش بأغنية قديمة تظنها أغنية وطنية، ولست تدري لم تفعل ذلك. تغيرها سريعًا إلى أغنية الحزن من مسرحية «غربة»، تقلد حركات الممثلين نائحًا مثلهم ملوحًا بمنديلك المهترئ للمدينة الميتة، تلوح بوداع قديم كنت تحتفظ به طويلًا على آخر ما تبقى من رفوف البيت، قرب آخر فنجان لا يزال محتفظًا بأذنه، هو الوحيد الذي يصغي إليك، وينتحب مثلك! على طول الطريق المؤدي إلى الهاوية التي تنتظرك. اغرس يأسك في أصيص الورد الذي تحتفظ به على نافذة غرفتك، قرب حبل الغسيل! لا تنسَ أن تغربل الرمل من دمك الذي سقط ومن حزنك الذي صدئ، من صوتك الذي فُقد ومن نبضك الذي خفت! لا تنسَ أن تغربل الرمل منك، اغرس يأسك صافيًا نقيًا كيلا تعود. لن تعود! اطفِئ مصباحك، هذا الليل مخيف! - بثينة الإبراهيم