لا يمكن أن يقلل أحد من المكاسب الكبيرة التي تحققت للغتنا بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3190 ديسمبر 1973م بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأممالمتحدة؛ وذلك بعد جهود مضنية مشكورة من دول عربية عدة على رأسها المملكة والمغرب والعراق وليبيا وغيرها. وقد تدرج التوسع في استخدام اللغة العربية في لجان الأممالمتحدة ومؤتمراتها إلى الاستخدام والترجمة الكاملة الشفوية والكتابية مهما كانت الصفحات، ثم تحققت مكاسب أخرى لاحقة بعد عمل دؤوب من المملكة والمغرب لإقرار يوم عالمي تحتفل فيه منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة باللغة العربية؛ فاتخذ القرار يوم 18 من ديسمبر 2012 خلال انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو، وأصبح يومُ اتخاذ القرار التاريخي يومَ الاحتفاء العالمي باللغة العربية. وجميل جداً أن نواكب هذا اليوم الأغر للغة العربية باحتفالات رسمية من كليات اللغة العربية وآدابها، ومن الجمعيات التي تعنى بالعربية، ومن وسائل الإعلام الجادة ووسائط التواصل الاجتماعي؛ للتذكير بما يجب علينا تجاه لغة القرآن الكريم والسنة النبوية وتراث العرب وتاريخهم وأدبهم وما حواه من إبداع فني عظيم، ومن حكمة وتجربة إنسانية عميقة، ومن عاطفة شفيفة رقيقة، ومن تصوير بلاغي مركب لا يمكن أن تتوافر عليه لغة عالمية أخرى. لا يمكن إلا أن تقدر كل هذه الجهود الطيبة؛ سواء في معقل اليونسكو باريس ومشاركة النخبة الممتازة من أدبائنا، أو في الداخل بما شاهدناه من احتفالات في الجامعات والأندية الأدبية، أو ما قرأنا من مقالات تعنى بيوم لغة الأمة. وعلى الرغم من ذلك كله؛ إلا أن لي رأياً قد لا يرضى عنه أو لا يتفق معي فيه كثيرون؛ وهو أننا مع كل هذه الجهود المقدرة إلا أننا سنظل نراوح في مكاننا إن لم نتراجع إلى الوراء مع مرور الزمن واشتداد حدة التنافس والصراع بين الأمم على تسنم مراكز القيادة الأولى في السباق الحضاري. ليست اللغة أية لغة إلا وعاء لأية أمة؛ تنقل من خلالها قيمها وتاريخها وثقافتها وآدابها وفنونها وهموم وشجون أبنائها وآمالهم وأحلامهم ومعاناتهم وتطلعهم إلى المستقبل؛ فاللغة هنا صورة شفافة صادقة لأي شعب أو حضارة، وستكون في الصف الأول إن كان أهلها في الصف الأول حضارياً، وستتقهقر إلى الخلف في المكان الحضاري الذي تستحق أن يصنف أهلها فيه. ولو رأينا الآن من يمسك بمقود سباق الحضارات في العالم لوجدنا خمس لغات أو تزيد قليلاً تتنافس على الصدارة: الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الصينية، الروسية. ولو ضربنا صفحاً عن الأممالمتحدة ومنظمة اليونسكو ونزلنا إلى الشارع وتجولنا في الأسواق وقرأنا اللغات المكتوبة على المواد الاستهلاكية اليومية أو على المصنوعات الكبيرة من أسلحة وعتاد وطائرات وقاطرات وأدوية ومخترعات، أو قلبنا قنوات التلفاز على الأقمار العالمية، أو تجولنا سياحة في الأرض، لغابت عنا لغتنا العربية على الإطلاق غياباً كاملاً. اللغة عنوان انتصار أو هزيمة. هي مقياس دقيق للإجابة بلا تزييف عن سؤال: أين موقعك من الإعراب في سجل الحضارات الإنسانية؟! حين كنا سادة كان الناس من أمم الشرق والغرب يتهافتون على معاهدنا ومدارسنا وكتبنا وآدابنا وعلومنا ويتعلمون لغتنا في بغداد والأندلس. وكان الفرنسيون والألمان والطليان وغيرهم لا يكتفون بحذق كلمات من لغتنا يتفاخرون بها حين يقصدون الأندلس منبهرين؛ بل يرتدون زينا ويعتمرون عمامتنا ويتوشحون بأرديتنا ويتزينون بقصات شعرنا! حين تنتصر الأمة تنتصر لغتها، وحين تتردى وتهزم وتضرب في كل موضع إلى حد الأنين تتكسر وتتوجع وتنحسر وتهون لغتها؛ فلا يكاد يسمع لها صوت أو يتهجى لها حرف.