ما رأينا في حياتنا كثيراً مثل تركي بن عبدالعزيز، بل لم نر مثله في خصائص امتاز بها عن رجالات العرب في هذا العصر، منها الصلابة في الحق، والصبر على البلاء في سبيله، والعزوف عن الضوء المبهر لا تقيده قيوم المظهر. رجل يحمل بين جنبيه قلباً عامراً بالاهتمام بأحوال شباب الأمة، والأسى لحاضرهم، وإذا استطاع الكاتب إحصاء أو تسجيل أعماله الخيرية والإنسانية المتعاقبة، فلن ينجو من التقصير في أن يوفيه كامل حقه. كان قبساً من نور أنار الطريق لآلاف من شباب قومه، وبلسماً لمس جراح المئات من مواطنيه في صمت وتواضع، وفي زمن تقلصت فيه أعمال الخير. فلقد استطاع الأمير تركي بن عبدالعزيز أن يقدم لأمته مؤسسة تهدف إلى توظيف الكفاءات العلمية والخريجين المنتفعين من مساعداته المالية في مشروعات التنمية في البلاد العربية، إضافة إلى جهوده الإنسانية التي لا يعلم إلا الله مداها. الوطن في منهاجه لا يعلو إلا بالعلم والمعرفة، والتلاحم بين أفراد المجتمع لا يمكن أن يحقق أهدافه إلا بعمل الخير ومساندة الضعيف وإحقاق الحق وإعطاء الإنسان ما يستحقه من احترام متبادل. كان إيمانه بالله كبيراً، فأصبحت الدنيا لا تستحق لديه جناح بعوضة، وهكذا أصبح العطاء عنده أسلوباً محبباً لنفسه، فهو يرتاح عندما يشعر أنه أنقذ مريضاً، أو قضى حاجة معوز. في أي بلد يكون فيه تصل إليه المكالمات عبر الهاتف من أنحاء الدنيا من أناس لا يعرفهم، يستمع إليهم، يلبي حاجاتهم في صمت. كم من مصاب بمصيبة لمسته أيادي الأمير الخيرة فعادت إليه لابتسامة، وكم من طالبٍ سدت الطرق أمامه، فكان سموه المفتاح الأمثل لإعادة الأمل إليه، مواقف عظيمة وخالدة تصدر عن الرجل كل يوم وكأنها واجبه المقدر وديدنه المحتوم. مجلسه الذي يلتئم فيه المثقف والتاجر والموظف والكاتب، الغني والأمير والفقير، جميعهم ينالون حدبه وعطفه، وهو الأب الحنون لهم جميعاً. يستمر إلى الفجر لا تفارقه ابتسامته في صبر عجيب. يستمع لكل ضيف من ضيوفه، وفي همس يلبي طلب أي إنسان يتوجه إليه. الحوار هو الشيء الذي كان يسود مجلسه. ويبدي كل زائر رأيه مهما كانت القضية موضوع البحث ولا يضن الأمير برأيه السديد في أية مشكلة أو قضية، وكان دائماً بجانب الحق، وكان مجلسه بمثابة برلمان، شعاره الحرية والاطمئنان. فترى المئات يقصدونه كل مساء سبت وثلاثاء، في مدينة جدة أو في أي بلد يزوره. كانت ملامح معاناة واعية تظهر دائماً على وجهه وهو يتكلم عن المشكلات التي يعاني منها العالم العربي جملة وتفصيلاً. وكان يمزج كلماته في أي نقطة بين الحاضر والمستقبل والماضي، وكان يسهب كثيراً في شرح أسباب الأزمات العربية، ويرى في التاريخ مصدراً رئيسياً في الحلول ودروساً كثيرة كان يجب الاستفادة منها والاستعانة بها، وهي دروس متنوعة منها ما هو فكري وما هو عملي وأحياناً ما هو حربي. كان يرى أن التاريخ العربي أصيل فيما قدم من حلول للأمة عبر القرون وكانت أحداث هذا التاريخ تعيش في ذهنه حية نابضة. وكان يكرر دائماً ما معناه أن الأزمة العربية المعاصرة ليست جديدة على الأمة فقد مرت عليها أزمات عديدة وصعاب أخطر ومشكلات أكبر واستطاعت الأمة أن تجتازها وأن تواصل مسيرة حضارتها. ويقول: في الزمان القديم احتلت أجزاء من الوطن العربي والإسلامي وخضعت القدس ذاتها لاحتلال دام ثمانين عاماً واستطاع المسلمون استخلاصها وتحريرها، وذلك لأنهم يعرفون جوهر الصراع ويملكون القدرة عليه. استندوا على عقيدتهم واستمسكوا بها وتملكوا أسباب الحضارة وإمكاناتها وطردوا المحتلين، لا من القدس وحدها، بل من بقية الأراضي التي كانت قد استلبت وخضعت للاحتلال، وكان شديد الإيمان بأن البلاد العربية ستنتصر مهما طال الزمان، ويقول: نحن أمة تربت على الشدائد وكانت تجتازها دائماً. ويرى في ذلك أن المقاومة لعاديات الزمن هي وسيلة الحياة. وهذه العبارة تنبئ بجلاء عن أن إنشاءه المؤسسة العالمية لمساعدة الطلاب العرب هذه هي وسيلته في المقاومة، مقاومة التخلف، بل ومقاومة الهزيمة. لقد منح هذه المؤسسة الكثير من روحه، والكثير من اهتمامه، والكثير من طاقته المتوقدة وشغفه الرائع بالعلوم والمتعلمين وحرصه الإيجابي عليهم وانشغاله بهم ولهم. إن هذه المؤسسة بما بدأت به وما تطورت إليه هي ظل لروح هذا الرجل النادر وتعبير عن أحلامه لطلاب المعرفة وقبس من شعلة حماسته المضيئة. من أعلى ما امتاز به الأمير تركي بن عبدالعزيز من شرف الخلال «نكران الذات» فهو يعمل الأعمال التي تعجز عنها الجماعات وتنوء بها العصب، ومع ذلك لا ينسب الفضل إلا لإخوانه ورفقائه الأموات والأحياء. مات الأمير تركي في الرياض، وغسلت جثمانه بالعبرات المسفوحة ألوف مؤلفة من طلاب مؤسسته الأوفياء في كل بقعة من الوطن العربي وكفنته بألفاف القلوب، ودفنته في مستقر العقيدة الواجب من نفوسها. هنيئاً لك أيها الأمير الجليل ذخرك عند الله مما قدمت يداك من باقيات صالحات، وسلام عليك إلى يوم الدين.