هلاّ قرأتِ أولاً هذا المطلع البديع لجبران من روايته الحزينة الأجنحة المتكسرة ؟ « كنت في بيروت في ربيع تلك السنة المملوءة بالغرائب. وكان نيسان قد أنبت الأزهار والاعشاب فظهرت في بساتين المدينة كأنها اسرار تعلنها الأرض للسماء. وكانت أشجار اللوز والتفاح قد اكتست بحلل بيضاء معطرة فبانت بين المنازل كأنها حوريات بملابس ناصعة قد بعث بهن الطبيعة عرائس وزوجات لأبناء الشعر والخيال» . هكذا بدأت علاقتي ببيروت مع جبران لكنها لم تنته عنده , أغلب الكتاب الذين تعلقت بهم وقضيت ليالٍ طوال مع قصصهم وأرائهم وأشعارهم كانت بيروت محطة لا تنسى في حياتهم ثم كان أن تعلقت بريفها حين اكتشفت رفيق جبران الذي لا تبعد قريته بسكتنا سوى دقائق من هنا ,لقد أُسرت عندما كنت شاباً بسيرته سبعون .. أُسرت بتجارب ميخائيل نعيمة الكبيرة . مر من هنا من ريف بيروت إلى الناصرة مولد مي . السلام على روح مي .. التي عرفت من سيرتها وجها مأسوياً لبيروت .. إنني لا أنسى ساعة بكيت عندما قرأت كتاباً يضم ذكريات أمين الريحاني معها حين قضت سنة في العصفورية دون أن يزورها أو يساندها في أزمتها ولمّا فعل أشاحت عنه بوجهها لا تكلمه . كان الحزن أكبر من أن تعاتبه أو تظهر السخط عليه . بعد مي وجبران وميخائيل عرفت درويش ومعه عرفت وجهان لبيروت . بيروت التي أحبها وظل طوال حياته يذكرها في أشعاره وأحاديثه بيروتُ شكل الظلِّ .. أجملُ من قصيدتها وأسهلُ من كلام الناس تُغرينا بألف بدايةٍ مفتوحة وبأبجدياتٍ جديدة: بيروتُ خيمتُنا الوحيدة ..بيروتُ نجمتُنا الوحيدة بيروتُ من تَعَبٍ ومن ذَهَبٍ , وأندلس وشام! وبيروت ذاكرة للنسيان .. « بيروت محرومة من نسيان جرحها ومحرومة من تذكر غدها المتروك لرمية نرد في لعبةً بلا قواعد .. بيروت خائفة على نفسها ومن نفسها ومما تعد لها العاصفة.» ثم كان أن اكتشفت غازي ومع غازي وجدت الشعر الحزين الراثي لحال بيروت ما التقينا نحنُ من عشر سنين . آه يا بيروت أدمتك الرصاصات وداستك حرب الفاتحين وتغيّرتِ كثيراً. غاب عن عينيكِ نجم , كان نور السامرين وانطوت روحك في قمتهما مثل السجين وتغيّرتِ كثيراً , انتِ لو أبصرتني راعك في وجهي شحوب الخائفين وذهول الضائعين .. أنتِ لو أبصرتني راعك هذا السهم في ظهري وهذا النصل في صدري وإفلاسي من الطهر وأكوامٌ من الشعر الحزين .. آه يا بيروت لو نحن التقينا , فسألقي رأسي المتعب في الصدر الذي ضم جميع المُتعبين وسنبكي . وسنحكي كل ماذقناه في عشر سنين ! والآن أيتها الصبية التي تسألين : هل عرفتِ لماذا بيروت؟