ما بين القصة القصيرة والقصيرة جدا يُمهرُ عبدالرحمن إبراهيم الجاسر سرداته بجملة من التجليات الدلالية المتعالقة سياقيا من جهة، ورؤيويا من جهة ثانية. إن ثمة تجاورا قصصيا بين نمطين من الكتابة كلاهما يعتمد التكثيف والتجريد وكتابة الحذف والوصول إلى رؤية ما دلالية أو فنية، يريد أن يبثها القاص للقارئ، وإذا كانت القصة القصيرة بآلياتها الكلاسيكية المعهودة وما بعدها تعتمد على حركة الشخصيات، وتحاورها ورصدها من منظور خارجي أو داخلي، كما تعتمد على الإفصاح عن الفكرة والحدث وعلى العثور التلقائي على حبكة ما أو موقف معقد يحتاج لصراع بسيط أو لحراك درامي في فضاء القصة إلا أن القصة القصيرة جدا تختزل هذا كله في الوصول إلى فكرة سواء كانت ناجمة عن حدث أم عن تمثل لحدث أم عن سؤال أم عن موقف مفارق أو غير مفارق. هكذا يتجاور النمطان وهما في صورتهما السردية يكملان بعضهما بعضا. عبدالرحمن الجاسر في مجموعته «حياد» (النادي الأدبي بالباحة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2014م) يقدم مجموعة من القصص التي تحتفي بالسؤال ورصد الذكرى وتأملها والوقوف على مشهد الحياة الشخصي أحيانا، منطلقا من قيمة الصدق. هذه القيمة التي حفزته لتصدير مجموعته بمقولتين لكل من :«فرانسوا ويرغان»: «لم أعد أجرؤ على قول أي شيء ففي كل مرة يعتقد الناس أنني أتحدث عن نفسي» ونجيب محفوظ: «بعض أكاذيب الحياة تنفجر صدقا» محفزا القارئ بدئيا عبر استثمار إحدى مظاهر العتبات النصية المتمثلة في التصدير، للبحث والتأمل في هاتين المقولتين اللتين تعبران عن قيمة الصدق وإن بشكل متضاد مفارق خاصة في وضوح نجيب محفوظ الذي يصف بعض أكاذيب الحياة وصفا نقيضا وهي أنها: «تنفجر صدقا» ولعل هذا يتحدد تبعا لرؤية القارئ نفسه، وتبعا لموقفه من القيم نفسها، فما هو صدق في زمن ما قد يعتبر كذبا وبالعكس، وما يحدد نمط القيمة بالضبط هو بعد من يقوم بتأويلها وعدم معاصرته لها. تضم مجموعة: «حياد» (8) قصص قصيرة، و(53) قصة قصيرة جدا ويستهل بقصة بعنوان: «وجه أبي» تألفت من أربع فقرات، أو أربعة مشاهد يصور فيها عبر التذكر / التخيل وجه الأب الذي رحل، لا نتعرف على الرحيل بداءة في مطالع القصة إلا من خلال هذه الإشارات الدلالية التي تشكل هاجسا لدى القارئ بغياب الأب حتى نصل في النهاية إلى أنه رحل «حينئذ أغمض عينيه في ظهر سرمدي بلا زمن». الجاسر بدأ بشكل متدرج، فالمشهد الأول يرصد ملامح الأب: الوجه، والصوت، والسمات، والثاني يستدعي حضور الأب في مشهد الحصاد ثم في المشهدين التاليين يرصده عبر التذكر ثم المشهد الموتي في الأخير. تبدو جمالية هذه القصة في نزوعها نحو توظيف آلية: «الأثر» فالجاسر لا يقدم مضمون القصة أو محتواها الدلالي بشكل مباشر للقارئ لكنه يجعله يفكر أكثر ويتأمل فيما يبث له من إشارات أو دلالات ولنصغ لهذا المشهد الافتتاحي في القصة: «في ملامح وجه شكلت صرامة التقاسيم ورقة النظرات، ينزاح – في مزاج مر- قناعاً أسوداً عن جبين تخفق فيه طيور بيضاء، في حقول كرم أسود أرى بين فراغات أنامله دنيا أخرى، يبتسم فيها بين حين وآخر ليلون السماء بلون غريب، لون له رائحة الطين، وطعم المطر». بعدها ينتقل إلى المشاهد الأخرى معانقا بين السردي والشعري كما في المشهد الثالث: «ذات مساء طرق سكوني بنحنحته المجلجلة ففتحت له طرفا من روحي». ومن وجه الأب إلى الوجه الطفولي في قصة: «شرايين صغيرة» (ص.ص 17-19) يرصد الجاسر مأساة طفل تجمع غشاء دموي في رأسه في انتظار الأمل ومبضع الجراح، وفي انتظار نهاية عذابات الأم «وجه طفولي يرسم على المحيا كل يوم ابتسامة الرضا إذا رضي، وبعتب طفولي يصرخ في وجهها». وينتقل أيضا إلى وجه طفولي آخر كما في قصة «نظرات» (ص 99) وإلى وجه مقنّع في «تقاسيم» التي يبدأها بسؤال سببي وينهيها بأرفض مشكلا حالة درامية برصد خبايا الوجه الذي يقابله: «لماذا حينما أقابله أشعر بأنه يصرخ..... (ص 127) وإلى وجوه شاحبة في «ليلة استثنائية» (ص 45) و«وجوه ومحاولات» فضاءات ثلاثة: يبتكر عبدالرحمن الجاسر فضاءات قصصه عبر ثلاثة مجالات، تتمثل في : الكتابة وما يتعلق بها من دلالات: الأقلام، والصفحات، والقراءة والحبر واللغة، ومن ثم وصف الموت ووصف الحب بوصفه قيمة إنسانية ضدية تواجه الموت، وتفرح بالحياة. في قصص كثيرة يورد الجاسر هذه المجالات مستخدما ضمير الغياب حينا، وضمير المتكلم أحيانا أخرى. وهذه المجالات تكتنفها دلالات: الاغتراب، والضجر، والإحباط والانتحار، والفقد والغياب والانتظار، مع ذلك ثمة بحث عن حياد ما، كأنه نوع من السكون في اللا جدوى والسدى. يتحول عشق الكتابة إلى حالة أسطورية في قصة: أسطورة الشيخ «الذي أدمن الكتابة حتى مات، وبعد ألف عام من موته في كهفه الذي اعتزل به الأماكن كلها، عثروا على «بقايا عظام وكتابات للغة مندثرة تفوح منها رائحة العشق» ثم يتحول إلى مفارقات ومواقف غرائبية كما في «فوضى» و«الرسالة» و«ملهمة» و«سيرة تافهة» و«كتابي الأول» وفي «سيرة تافهة» يلخص مستقبل الكتابة في المشهد الثاني من مشاهد القصة المكونة من خمسة مشاهد: «هنا فوق هذه الطاولة مزق أجمل نصوصه في لحظة إحباط عارمة، وألقاها في سلة المهملات، حاول أن يلتقطها من ذاكرته، أدخل يده فلم يجد إلا رمادا» ص 79 الكتابة تتحول إلى رماد، لا جدوى من إعادة تذكرها أو حتى ملامستها كلما حاول أن يستردها، أو يسترد ذاته فيها. إنها ذات محبطة وأكثر اغترابا، حتى في المشهد الثقافي الذي لا يتواصل مع وجوهه الحقيقية بل وينكر حضورها. في مجال: «وصف الموت» نطالع قصصا متعددة. الموتُ هنا ليس موت الفناء الذي يُنهي حياة ما، بل إنه الموت المُتَأمل فيه. الموت الذي يحفز على الحياة لا ليدمرها وينهيها. كما في قصة: «يأس»: «قلت له : ما أقسى أنواع الموت؟ قال: أن تظل حيا» ص 111 هي فلسفة محبطة إذن . أن يتساوى الموت مع الحياة. أن تصبح الحياة حالة موت. إنه وعي مأساوي مفارق ورؤية للغياب بعتمات الوضوح – إذا صح التعبير – وضوح الكتابة التي تجلد الذات، وتجلد إشراقاتها الناهضة، في جعل الموت قرينا للحياة. ويأتي مجال الحب في القصص ليشهر قيمة دلالاته المحفزة ضد الآخر، وضد العالم. هو حب إنساني بالدرجة الأولى، ويتجلى في عدة قصص منها: «فقال الحب» و«علاقات» و«هو وهي» و«باقة ورد» وفيها مفارقة يومية: «أراد أن يفاجئها بباقة ورد، فوجدها نائمة، فاختار الثلاجة المكان الأنسب لتحتفظ الباقة بطراوتها، وعاد إلى عمله وفي المساء – عند العشاء- تقدم له زوجته طبق الشوربة بالأعشاب» / ص 107 القصة على طرافتها تؤكد على دلالة مفارقة وهي افتقاد قيمة الحب وعدم التفكير فيها جديا أو الإحساس بأن مطلق الحب مفتقد وأنه قيمة غائبة، ولعل هذه القيمة تنهزم أمام دالة الموت أحيانا، كما في «حب وموت» التي يجسد فيها القاص بشكل دال انتصار الموت وغياب هذه القيمة الإنسانية الأثيرة: «الحب». هارمونية السرد: تتماسك قصص عبدالرحمن الجاسر تماسكا فنيا واعيا إذ إن السرد يأتي في القصص بلغة تنتقي أساليبها ومفردات معبرة عن دائرة دلالية كبرى قوامها الفقد والاغتراب والضجر، بيد أن هذه الدائرة تتعدد في أعماقها دوائر من تلمس الأمل والبحث عن منافذ أكثر غبطة بالعالم، كما في: «شرايين صغيرة» مثلا. إن حالات الألم تتبصر حالات الأمل، هكذا يمكن النظر إلى قصص الجاسر التي قد تتسامى في شعريتها لتقدم قصة/ قصيدة كما في: «دموع لا تُرى» التي يمكن أن تقرأ على أنها قصيدة نثرية كما يمكن تلقيها على أنها قصة قصيرة جدا، وهذا يثير هنا السؤال المتكرر حول هوية القصة القصيرة وعلاقتها النوعية بقصيدة النثر والنثر الفني، تقول القصة، وكما جاءت بشكلها الطباعي بالمجموعة: خرجت وتركت لي هنا هنا عينين ناعستين وكوب قهوة خزفيا وقلما أحمر وكتابَ جيب ورائحة عطر فرنسي وأشياء أخرى تثير قلق ذاكرتي المتعبة وتزرع دموعا لا أحد يراها سواي / ص 49 إن القاص عبدالرحمن الجاسر قدم لنا في مجموعته: «حياد» عملا سرديا حافلا بجماليات ثرة دالة، لها أسئلتها وأبعادها المتميزة.