أتابع في هذه الحلقة تتبعي للتصحيف الذي لحق كلمة (متير) في نص الباقلاني وتحويلها إلى كلمة (ميتر)، وقد عرضت في المقالة السابقة أول الخيط لهذا الوهم العلمي عند الجارم ثم عند صفاء خلوصي في مقدمته لتحقيق كتاب (القسطاس المستقيم في علم العروض) للزمخشري, وهو كتاب حققته طالبته بهيجة الحسني ونشر سنة 1969م. وقد أثنى على المحققة لانتباهها لورود كلمة (ميتر) في نص الباقلاني!! ولكني شككت بالنص الذي نقلته المحققة عن الباقلاني, وظننت أنها رجعت لطبعة أخرى من كتاب الباقلاني ولتحقيق مختلف غير الذي اعتمدت أنا عليه, ولكني وجدتها تشير في الحاشية إلى تحقيق الدكتور أحمد صقر وعدت إلى ذلك التحقيق وقد شككت في نفسي وفي قراءتي, ووجدت أن الكلمة وردت فيه بلفظ (المتير) وليس (الميتر) وبينهما بون بعيد. وقد عرضت نص الباقلاني في المقالة السابقة. وقد استبدلتْ محققة كتاب القسطاس المستقيم كلمة (المتير) الواردة في نص الباقلاني ب (الميتر), ونقلها عنها أستاذها صفاء الخلوصي, وأوّلها التأويل الذي دفعه باتجاه علاقة أصل الوزن العربي وعروضه باليونان وعروضهم. كما أن كلاًّ منهما تجاهلا تمامًا بقية نص الباقلاني الذي يؤكد فيه أنه لم يُسمع هذا القول إلا من غلام ثعلب, وثعلب عاش بعد الخليل بما يزيد عن مئة سنة, مما يعني أن فجوة زمنية تفصل بين القائل وزمن الخليل, ومن المحتمل أن يكون الناس قد زاد وعيهم بعلم العروض وتنبهوا له, كما أنهما تجاهلا تضعيف الباقلاني نفسه من أهمية هذا الرأي إذ يعلق: «ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره فيحتمل ما قاله.» وعند جملة يحتمل ما قالوه يحيل المحقق الدكتور صقر في الحاشية إلى نص الجملة في مخطوطة أخرى ترد هكذا: « فحمل ما قالوه « وكلا الجملتين تحملان روح التنصل من هذه الرواية الوحيدة, فضلاً عن أن الباقلاني كان في سياق تعداد الاحتمالات لنشوء الشعر, وليس في سياق الحديث لا عن الخليل ولا عن نشوء علم العروض!! أما ما أدهشني أكثر فهو أن مهدي المخزومي وهو من أكثر المدافعين عن الخليل وأصالة عمله في علوم اللغة والنحو العروض, قد وقع في الخطأ نفسه, واستعمل كلمة (ميتر) بدلاً من كلمة (متير) وهو يتحدث عن ورودها في كتاب إعجاز القرآن؛ ليردّ على من أسرفوا في التأويل وهو يدافع عن أصالة الخليل. ولما راجعتُ مصادره اتضح لي أنه عاد إلى نسخة بتحقيق محب الدين الخطيب, وهي الصادرة عن الطبعة السلفية عام 1349ه, ووجدت أنَّ لا أثر لكلمة (ميتر) في هذه الطبعة, ورأيت في تلك الطبعة من كتاب إعجاز القرآن أن المحقق وضع بدل كلمة (المتير) كلمة (الهنبر) في المتن, وقال المحقق في الحاشية: «لم أعثر بعد على هذه القصة عن أبي عمر الزاهد ولا عن غيره. ولست أعرف هذه الكلمة (المتير) وليست مثبتة في كتب اللغة لا بهذا المعنى ولا بغيره. وقوله إن اشتقاقها من المتر يدل بعض الشيء على أنها على وزن (فعيل) بمعنى مفعول أي ممتور أي مقطّع». والغريب أن المحقق يكتبها في المتن هكذا (الهنبر) وفي الوقت نفسه يتحدث في الحاشية عن كلمة متير؛ ويقول إن كلمة (متير) لا أثر لها في المعاجم, وهي أصلاً لا أثر لها في المتن الذي أمام القارئ, ولست بصدد الرد على هذا التعليق في الحاشية , فهذه الطبعة التي اعتمد عليها المخزومي نسخة تعج بالأخطاء والتحريفات , وقد نبّه إلى ذلك الدكتور أحمد صقر في مقدمة تحقيقه لكتاب إعجاز القرآن للباقلاني. - د. فاطمة بنت عبدالله الوهيبي