عرضت في المقالات السابقة الوهم العلمي الذي دفع بعض الباحثين للسخرية من خبر الزبيدي وابن نباتة عن فك الخليل بن أحمد لرسالة ملك اليونان، وقد بينت في تلك المقالات كيف يمكن فهم هذا الخبر في ضوء علم التعمية. ووضحت مكانة الخليل في هذا العلم، وكشفت من خلال تحليل كلمات مفتاحية واردة في النص ما يفند الأضلولة الأولى حول الخليل. أما الأضلولة الثانية فترد في معظم الدراسات عن علم العروض، ولا يكاد يسلم من التخبط فيها إلا قليل منهم، وهي منتشرة انتشارًا يدعو إلى التعجب منها على الرغم من أن الدلائل التي تفندها تحت النظر وأمام أعين الباحثين. وتلك الأضلولة تقول إن الخليل اكتشف خمسة عشر بحرًا فقط ثم جاء الأخفش من بعده واكتشف البحر السادس عشر, وتداركه عليه لذا سمي بحر المتدارك (الذي سمي كذلك تسميات كثيرة منها: الخبب، والركض، والمخترع، والمحدث، وقطر الميزاب، وقرع النواقيس...). وقد عرض الدكتور مهدي المخزومي في كتابه (الخليل عبقري من البصرة) حججًا علمية لتفنيد هذا الزعم. ولكن بنشر كتاب العروض للأخفش الذي يخلو تمامًا من أية إشارة إلى المتدارك تسقط هذه الأضلولة جملة وتفصيلاً، وقد ذهب إلى ذلك محققه أحمد عبدالدايم ونص عليه في مقدمات التحقيق. والغريب أن من أشاعوا هذا الوهم من الدارسين المحدثين كانوا لابد يرجعون لترجمة الخليل، ومن بينها ترجمة أبي الطيب اللغوي (المتوفى سنة 351ه) في كتابه (مراتب النحويين) الذي نص فيه صراحة على نظم الخليل أبياتًا على بحر المتدارك (الخبب) فقد قال في ترجمته له: «ومما أبدع فيه الخليل اختراعه العروض ... وأحدث الخليل أنواعًا من الشعر ليست من أوزان العرب». ثم أورد له أبياتًا هي من بحر المتدارك ثم ختم ذلك بقوله: «فاستخرج المحدثون من هذين الوزنين وزنًا سموه المخلع وخلطوا فيه بين أجزاء هذا وأجزاء هذا». ولكن وقبل ظهور كتاب العروض للأخفش طبع كتاب المعيار في وزن الأشعار (طبع سنة 1400ه) للشنتريني المتوفى سنة 549ه، قال وهو يتحدث عن المتدارك: «وقد ذهب غير الخليل إلى أنه مستعمل ويسمى المخترع والخبب وركض الخيل، وليس عند الخليل شعرًا ويروى أنه نص على طرحه». وبغض النظر هل عده الخليل شعرًا أم لا، المهم هنا أنه عرفه وطرحه كما قال الشنتريني. وقبل الشنتريني ألف ابن القطاع المتوفى سنة 515ه كتابه (البارع في علم العروض)، وقال في حديثه عن المتدارك: «ولم يجزه الخليل ودفعه مرة واحدة». وفي الإشارة ما يغني عن إعادة الكلام في أن الخليل عرفه وربما سماه، وقد رويت عن الخليل أبيات نظمها على هذا البحر، ولست أدري أيمكن أن يطرحه ثم يختاره لينظم عليه؟ أم أنها أبيات مدسوسة عليه أيضًا. إن أضلولة وضع الأخفش لبحر المتدارك قد تناولها عدد من الدارسين وناقشوها وفندها بعضهم. ولست هنا أريد أن أزيد أية أدلة، ولكني أردت عرض المسألة علميًا قبل أن أنصرف إلى ما أنا بصدده وهو تتبع بداية هذه الأضلولة، فلعل في ذلك شيئاً من الفائدة يتضح في هذا السياق. وأترك تتبع ذلك الخيط للمقالة المقبلة. ** ** - د. فاطمة بنت عبدالله الوهيبي