كان رائعًا بكل ما تعنيه الكلمة، روعة الفكر والأدب والثقافة والعلم، والتواضع وهي الصفة التي لفتت انتباهي وجعلتني عندما أراه أو أتحدث إليه أشعر بالفخر كيف أتحدث إلى هذا العلم العالم، وأستمع إلى هذا التواضع ؟ فالعلماء، والمفكرون، والأدباء كُثر، ولكن أن يجتمع التواضع ولين الجانب، وإشعارك بأنه ليس لديه من أمور الدنيا ما يشغله عن الحديث أو الاستماع إليك، إلا سواك فهذا من النادر أن يحدث، وهذا ما لمسته مع أستاذنا ووالدنا الأستاذ الدكتور عبدالله بن صالح العثيمين -رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان- عرفته قبل أن ألقاه من خلال الصحافة، ومن كتبه المنتشرة في المكتبات العربية، وسمعت عنه من زملائي من عنيزة وفي مركز صالح بن صالح الاجتماعي على الأكثر، ولكن عندما تعاملت معه، كان وضعًا مختلفًا، وجدت نفسي أتحدث إلى الأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية، وعضو مجلس الشورى، والأستاذ الجامعي، والشاعر، والمؤلف،...الخ وجهًا لوجه عندما تشرف مركز صالح بن صالح الاجتماعي بإصدار كتابه (أنتِ يا فيحاءُ ملهمتي) وكنت مسؤولاً عن متابعة هذا الكتاب حتى يتم طباعته، فأرسلت إليه عبر البريد الإلكتروني النسخة الأخيرة من الديوان بغرض الاطلاع عليها واعتمادها، واتصلت عليه بعد إرسال البريد، فقال لي أبشر، سأحضر إلى عنيزة وأحضر معي (البروفة) بإذن الله تعالى، وكنت جالساً مع زملائي في مكاتبنا حيث تقع في الطابق السفلي من المكتبة، وإذ بنا نراه يدخل إلينا بمحياه وطلعته البهية وجلس يلاطفنا الحديث أنا وزملائي، وكم غمرنا حينها بحبه وتواضعه. وقد تحدث في مقدمة هذا الكتاب عن حب الوطن فقال: «وإذا كان حب الأوطان فطرة فطر الله عليها الإنسان، وأمراً تشترك فيه جميع الشعوب والأمم، وكان الحنين إليها قد عبَّر عنه من غابوا عن ربوعها، فإن لوطن المرء الصغير في إطار وطنه الكبير مكانة خاصة. ومن حسن حظ كاتب هذه السطور أن مسقط رأسه بلدة لها منزلتها في النفوس، وبيدها مفتاح تملُّك المشاعر. كان غيابي عنها خلال دراستي في جامعة الملك سعود تُخفِّف وطأته سهولة المجيء إليها من الرياض عندما أشعر أن مبلغ الشوق يجعلني أستفيد من تلك السهولة وإن كان السفر، أحياناً، فوق ظهر ناقلة نفط قد تغرز في الرمل وقد تنجو من التغريز. على أن الوضع تَغيَّر بعد ما أصبحت أدرس دراسة عليا في جامعة ادنبرا باسكتلندا؛ إذ بَعُدت المسافة كلَّ البُعْد، وقلَّت فرص المجيء إلى مسقط الرأس، ومرتع الصبا، ومسرح الشباب. فكان الشوق إلى الفيحاء.. فيحاء القصيم.. أعظم وأشدَّ. ولما عدت إلى الوطن العزيز - أواخر عام 1392ه/1972م-؛ مكملاً تلك الدراسة العليا، كانت باكورة ما نشرت قصيدة عبَّرت فيها عن مشاعري بعودتي إلى حضن بلدتي الجميلة الغالية بما لي فيها من ذكريات منطبعة في ذهني. وكان عنوان تلك القصيدة « عودة الغائب»، الذي جعلته، أيضاً، عنوانا لأول مجموعة شعرية صدرت لي. ومطلع هذه القصيدة: وكان لنشر تلك القصيدة صدى من نتائجه تَجلِّي لطف ثلاثة من شعراء عنيزة الكبار بكتابة ثلاث قصائد طويلة معارضة لها على وزنها وقافيتها. وهؤلاء الشعراء هم: عبدالعزيز المحمد المُسلَّم، وعبدالله الحمد السناني، وإبراهيم المحمد الدامغ -رحمهم الله-. وكان لصدى قصيدة المُسلَّم قصيدة للشاعر عبدالرحمن السماعيل أيضا. ولقد نَشرتُ عِدَّة مقالات ذات صلة مباشرة بمسقط رأسي الفيحاء.. فيحاء القصيم ...؛ بعضها عن الإجازات التي اعتدت أن أقضيها فيها، وبعضها عن شخصيات من أهلها. وهؤلاء هم: صالح الزامل الذي كان قائداً لجيش أهل عنيزة في مرحلة توحيد الوطن العزيز، والذي قضى نحبه بطلاً شجاعاً في معركة جراب، التي دارت بين الملك عبدالعزيز وأنصاره والأمير سعود بن رشيد وأتباعه سنة 1333ه/1915م، والشيخ إبراهيم بن عبدالعزيز الدامغ، الذي كان ضمن وفد أرسله الملك عبدالعزيز إلى اسطنبول، وكان مشهوراً في مجالي السياسة والمحاماة في العراق، والسيدة الفاضلة موضي العبدالله البسام التي كانت فريدة في البذل والإحسان، والشيخ الشاعر عبدالله الصالح الفالح، الذي كتبت مقالة عن تَغنِّيه بحب الوطن. وإضافة إلى ذلك هناك قصيدة هي الوحيدة التي كتبتها في الرثاء. وهي رثاء للشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي، كتبتها عند وفاته عام 1376ه/1956م، ومقالة عن أخي الشيخ محمد عند وفاته عام 1421ه/ 2001م. رحم الله الجميع». أما الموقف الآخر الذي يعبر عن لطف وتواضع أستاذنا ووالدنا الأستاذ عبدالله الصالح العثيمين -رحمه الله- عندما شارك في مهرجان عنيزة الثاني للثقافة الذي نظمته الجمعية الخيرية الصالحية في عنيزة ممثلة بفرعيها (مركز صالح بن صالح الاجتماعي، ومركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن الفيصل الاجتماعي) تحت شعار نختلف ولا نفترق خلال الفترة (25/3-6/4/1430ه الموافق 22/3-2/4/2009م) بأمسية شعرية أدارها الدكتور عبدالله بن صالح الوشمي. وكان من ضمن الإجراءات النظامية تعبئة استمارة تتضمن شيئًا من سيرته الذاتية، ورقم هويته الوطنية واحتياجاته خلال الأمسية من أجهزة عرض وخلافه، وكنت متحرجًا كيف أطلب هذه الأشياء من هذا العلم وهو معروف كالشمس في وضح النهار، وكالقمر ليلة التمام، إلا أنه - رحمه الله- كان بتواضعه الجم يذهب عنا هذا الإحساس، فما أغلق علينا وسيلة الاتصال مرة وما قال: إنه مشغول، بل كان يبادر دائماً بالترحيب والسؤال عنا وعن أحوالنا وأحوال الزملاء. أما الحدث الثالث والذي كنا متشوقين لرؤيته فيه، ولكن أقعده حينها المرض فكان تكريمه في مهرجان عنيزة الخامس للثقافة الذي أقيم خلال الفترة (18-22/6/1437ه الموافق 27-31/3/2016م)، ولكن كان حاضرًا من خلال محبيه بالحديث عنه في الندوة التي أقيمت عن الشخصيات التي تم تكريمها من قبل صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز -أمير منطقة القصيم. ولقد تحدث عنه الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالرحمن الهدلق مساء يوم الاثنين 19/6/1437ه الذي جاء في حديثه: أول مرة سمعت فيها باسم الصديق الأستاذ الدكتور عبد الله الصالح العثيمين كانت بعدما أصدر الأديب الشيخ عبد الله بن إدريس الطبعة الأولى من كتابه الشهير(شعراء نجد المعاصرون) وذلك في عام1380 /1960 .لقد سمعت عن الكتاب من بعض الأساتذة في المعهد العلمي بشقراء، وسمعت شيئا من حواراتهم بشأنه وبخاصة ما يتصل ببعض المذاهب الأدبية التي أشار إليها الشيخ ابن إدريس في القسم الخاص بالدراسة من كتابه وكانت مثار اهتمام الأساتذة، لقد سمعت، وربما كان ذلك لأول مرة عن بعض المذاهب الأدبية الكبرى مثل الكلاسيكية، والرومانتيكية ،والواقعية. وقد اشتريت الكتاب وقرأته بنهم. وكان مما لفت نظري فيه أنه قد اشتمل على ثلاثة شعراء كلهم يحملون لقب( عثيمين) من بينهم الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين المولود في بلدة( السلمية) بالخرج، وصالح الأحمد العثيمين وعبد الله الصالح العثيمين (المولودان في مدينة عنيزة)، ولعل مما ربط هذا الاسم بذاكرتي جيدا أن أخوالي كانوا يسكنون في شقراء في بيت كبير استأجروه من آل عثيمين، أبناء عم الدكتور عبد الله. الاسم ليس غريبا عليَّ بل هو اسمٌ جذاب في حقيقة الأمر. كانت القصائد التي نشرها الشيخ ابن إدريس للدكتور عبد الله قصائد وطنية تتحدث عن فلسطين والجزائر وغيرهما من مواجع الأمة العربية، وكان المد القومي العربي آنذاك على أشده تغذيه الآلة الإعلامية المصرية العالية النبرة. كان هذا في عام 1380/1960 وما أعقبها من سنوات ذلك العقد الزمني. ثم غاب العثيمين عن خاطري سنين طوالا ليظهر فجأة أمام عيني في صيف عام 1971 أمام مدخل مستشفى شهير بمدينة إدنبرة بإسكتلندا يعرف ب:The Royal Infirmary . كنت قد جئت في ذلك الصيف برفقة الزميل الأستاذ الدكتور عبد العزيز المانع من مدينة بورنموث في جنوبإنجلترا، حيث كنا ندرس اللغة الإنجليزية، جئنا إلى إدنبرة لنبحث عن سكن لأسرتينا في هذه المدينة الإسكتلندية الجميلة؛ لأننا سنلتحق بالجامعة في شهر سبتمبر من ذلك العام، وقد ذكِرَت لنا أسماءُ بعضِ الذين يدرسون هناك من السعوديين ومن بينهم عبد الله العثيمين، وعبد الله الجربوع، وعبد الله الحييد. وسألنا عن الجربوع، وهو آخرهم مجيئا إلى إدنبرة، فقيل لنا: إنه يرقد في المستشفى المشار إليه أعلاه لعارض صحي ألم به فقررنا لحظة وصولنا أن نزوره مع أنه لم يسبق لنا أن رأيناه من قبل. وخلال الزيارة حدثنا عن الزملاء الموجودين في إدنبرة وقال لنا: لا بد لكما أن تتصلا بالعثيمين فإنه عمدة السعوديين في هذه المدينة، وودعنا الجربوع في سريره، وبينما كنا نهم بمغادرة مدخل المستشفي إذا بالعثيمين أمامنا، و لم يسبق لنا أن رأيناه أيضا من قبل لكنه العثيمين لا تخطئه العين في أي موطن وُجد، كانت البسمة على محياه تجذبك إليه كما يجذب المغناطيس الحديد، وقد استجبنا للجذب. لقد جاء العثيمين إلى المستشفى زائرا زميله الجربوع فأصر عندما قابلناه على أن نعود معه إلى غرفة الجربوع، التي خرجنا منها للتو، ولو لبضع دقائق ليقضي واجب الزيارة ثم نخرج، وقد فعلنا. منذ تلك اللحظة الحاسمة على مدخل المستشفى بإدنبرة انعقدت بيننا وبين هذا الرجلِ المحبوب صداقة وثيقة ،ومعرفة عميقة وأكرم بها من صداقة وأنعم بها من معرفة.. لم تطل إقامة الدكتور عبد الله معنا في إدنبرة طويلا بعد ذلك اللقاء إذ إنه بعد عام وبعض الأشهر(1392/1972) حصل على شهادة الدكتوراه وذلك على رسالته عن» الشيخ محمد بن عبد الوهاب، دراسة لحياته، وتحليل لإنتاجه العلمي، وإيضاح لعقيدته وأفكاره، وآراء معارضيه». وبعد ذلك بقليل عاد إلى المملكة، وبعودته ترك فراغا كبيرا ليس فقط بيننا نحن السعوديين، بل لدى كلّ ِ العرب في إدنبرة، والباكستانيين ،والاسكتلنديين وغيرهم ممن كانوا على صلة به. ولكنه ظل وفيا، في الأعوام التالية لعودته، لأصدقائه ولمدينته، فكان يسعدهم بزياراته كلما سنحت له فرصة. ثم عرج على سيرته العلمية والعملية التي يطول الحديث عنها، وفي نهاية الندوة قام اللواء المتقاعد عبدالقادر كمال بمداخلة طويلة سأكتفي بتلك العبارة منها: حضرت مساء الأربعاء الماضي حفل جائزة الملك فيصل العالمية، وشاهدت مع الحاضرين فيلمًا عن مسيرة أخي وأستاذي وزميلي الدكتور عبدالله صالح العثيمين؛ طفرت مني دمعة داريتها بطرف غُتْرتي، وسرَحَتْ بي ذاكرتي مع هذه الشخصية المحببة في طريف استعاراتها، ولطيف مجازاتها. شخصية جمعت بين العلم والتواضع والألفة والمحبة والترفع عن سفاسف الأمور سعدت برفقته زمنًا وحظيت بمعيته أعوامًا في كثير من الرحلات في باريس، والبرتغال، وأسبانيا، ومصر، ولبنان، والمغرب، والإمارات العربية المتحدة، وتشرفت بصحبته حضرًا وسفرًا، أنِسْتُ بقُربِهِ واستأنست بمصاحبته، وصداقته. شهدته زميلاً في مجلس الشورى وحرصت بأن أكون بجواره لأتعلم منه وحرص هو ان يكون معي في لجنة الشؤون الأمنية وما زلت أذكره وهو على منصة حفل جائزة الملك فيصل العالمية أمينًا عامًا وخطيبًا مفوهًا، وشاعرًا غريدًا. رحم الله أستاذنا ووالدنا الأستاذ الدكتور عبدالله بن صالح العثيمين رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته. د. جمعة إبراهيم موسى - مدير مكتبة مركز صالح بن صالح الاجتماعي بعنيزة