مُنذ أشهر وصلني كتاب ((الرُّويس))، هديةً من القامة الأدبية والنقدية: سعيد السريحي، وكنت حينها في زحامٍ مع الوقت، أُصارع ساعتي لعلي أجد منتجعًا بين عقاربها؛ أقرأ فيه ما أجلتُ قراءته من كتب، وعندما وجدت متسعًا، وقعت عيني على كتاب ((الرُّويس))، وكنت أظن حينها وأنا أحدق في زوايا الكتاب، قبل الولوج في إعماقه- أنني سأتلمس أسلوب الناقد الصارم، الذي قلما يتخلى عن آرائه وأفكاره، لكني وجدت سحرًا أسلوبيًّا يرحل بقارئه حيثُ أراد الكاتب، متأخذًا منحى مغايرًا لأسلوب الناقد. كتاب الرُّويس، أشبه بسردٍ قصصي، يحكي فترةً زمنيةً لحيٍّ من أحياء جدة القديمة، يشعرك بالأُلفة والغربة معًا، أُلفةً حملها أسلوب الكاتب المشابة لحكايا الجدات الذي يشعرك بأنك تستمع لمعاناة الأجداد، وفي الوقت نفسه يشعرك بسعادة أُناس يحملون قلبًا واحدًا محبًا للخير والسلام، في ظل هزيمة الفقر والموت وشتت الحرب- أما الغربة فيستشعرها قارئ اليوم في صعوبة عيشهم آنذاك، وفي بعض خرافاتهم وطقوس شفائهم. إن اللافت حقًا-في هذا الكتاب- أنك لا تتوقف عن الاستزادة من صفحاته، وكأن هناك حصارًا، يمنع الملل من أن يتسرب لنفسك، يقول الكاتب في وصفه لحال المقابر في الرُّويس بعد رحيل أهلها عنها بسبب الحرب: ((المقابرُ حبل وصل وليس لهم أن يقطعوا حبلاً يصلهم بسلف لهم ويحلّون أغرابًا في مقابر ليس بينهم وبينها نسب، ينكرون من سبقهم إليها وينكرهم من حلّ قبلهم بها... كلما هموا بحفر قبر جديد تكشف لهم قبر قديم يلقون على صاحبه السلام، ويعتذرون منه، يعيدون إليه سكينة الموت...)). لقد استعان الكاتب بالمعجم التاريخي في كتابه، إذ يجد القارئ بين طياته مسميات أشياء، وثقافات قديمة، تعيده للوراء، حيثُ زمن الأجداد، مثل: ((صرة النقود، وآلة الأَسْطُرلاب الفلكية، والمتاجرة بالرق))، والذي يسمح-من خلاله- للسؤال أن يغزو ذهن قارئه، فإذا به يتساءل: عن أي فترة زمنية يتحدث الكاتب؟، تاركًا إياه يتجول بين الكلمات عله يستشف الجواب! ويلمح قارئ الكتاب-أيضًا- ملمحًا واضحًا للهجة أهل الرُّويس المحلية، والتي جاءت على لسان شخصيات القص، مثل: ((قِعدت، وقِلت))، ولبعض أغانيهم الشعبية، وكأنها وثيقة تاريخية يخلد لنا الموروث، ويقدمه بطريقة سلسة ممتعة، يقول: مركبْ عرضْ لي وأنا شفته بين الرويسين متقرِّب والحاية أزيبْ مناكفته بالحيلْ بالجوشْ متغلِّب لم أشعر حين قرأت الكتاب بشعور المستثقل الذي يترقب رؤية آخر صفحاته، بل كنت استمتع بتلك العفوية والبساطة في لهجة أهل الرُّويس، وأغانيهم، وحكاياهم. لقد شعرت بمتعة القراءة بكل ماتعنيه تلك الكلمة، وقلت حين انتهيت من قراءته: لماذا يبخل علينا نقادنا بمثل هذا النتاج، الذي يكشف عن جوانب أخرى من شخصياتهم؟!..