هل طول كتاب ما وحجمه وعدد صفحاته معيار لجودته من عدمها؟ الإجابة عند أغلب القراء على الأرجح هي بالنفي، على الرغم من رضوخ بعض الكتَّاب مؤخراً لهوس نشر كتب ذات أحجام متضخمة من حيث عدد صفحاتها، معتقدين ربما أن في ذلك ما يضفي على كتبهم قيمة ما ويمنحها مكانة أسمى من غيرها، خصوصاً إذا ما تذكرنا أن كثيراً من كلاسيكيات الرواية العالمية، على سبيل المثال، كانت من الكتب الكبيرة التي يمتد بعضها على أكثر من مجلد. الأمر الذي استدعى هذه الفكرة العابرة إلى الذهن هو اطلاعي مؤخراً على كتاب قيم من النوع الذي ليس من السهل وضعه في إطار تصنيفي واضح ومحدد، لأنه من الكتب التي تستعصي على التجنيس (أي نسبتها إلى جنس كتابي محدد)، وهذا بالتأكيد لا يعيبه ولا ينتقص منه. ولأكون صادقاً مع القارئ ومع نفسي أولاً، فإنني فوجئت بضآلة حجم الكتاب حين وقعت عيناي عليه لأول مرة، وقد كنت حريصاً على الحصول عليه فور قراءتي خبراً عابراً في إحدى الصحف المحلية عن صدوره. عنوان الكتاب هو (الرُّويس). أما مؤلفه فهو الكاتب والناقد المعروف الدكتور سعيد السريحي. الكتاب الصادر عن دار جداول يقع في 79 صفحة فحسب، أي أن بوسع المرء أن يقرأه في جلسة واحدة إن تسنى له الوقت، ولكنه ليس بالكتاب «الخفيف»، وهو حتماً لا ينتمي إلى الكتب «السريعة» إياها التي أغرقت سوق الكتب المحلية مؤخراً. الكتاب مزيج من السيرة التي تروي حكاية مكان، والسرد الذي يستعيد جوانب مؤلمة من حكايات الناس الذين عاشوا على الهامش، «هامش مدينة لم يعرفوها وهامش قرية لم تعد تعرفهم، وظلوا مترددين وتائهين بين حضارة لا ترغب في أن تتقبلهم، وبداوة صارت تنظر إليهم بعين الريبة؛ فهم بدو في عيون أهل جدة «المتجذرين في تحضرهم»، وبدو في عيون من ظلوا «مستعصمين بقراهم النائية». بنية الكتاب الذي يبدو في كثير من الأحيان كقصيدة طويلة ترثي زمناً مضى ومكاناً اندثر ولم يبق منه سوى اسمه شاهداً عليه، أقرب إلى التشظي المتناغم، فهو أقرب ما يكون إلى اللوحات السردية القصيرة غير المترابطة وغير المنفصلة في ذات الوقت، حيث تتتابع الأسماء والشخوص بذكر اسمها الأول فحسب، أو باسمها الثنائي دون تعريف بها، سوى تعريف ضمني بأنها تنتمي إلى الرويس، وكأن هذا الانتماء وحده كافٍ وحده لنتبين ملامحهم ونتعرف على جانب من حياتهم المفرطة في قسوتها وشظفها. الكلمة العليا في هذا النص هي للموت الذي يتخطف سكان الرويس ويجدُّ في حصادهم دون أن يفرق بين صغير وكبير، كما حدث في سنة الرحمة حين أحاطت «سنتها جدةُ الرويسَ بسياج لا يخرج من أهله أحد ولا يدخل عليهم أحد» إمعاناً في نبذهم، والخوف من الوباء الذي تفشى بينهم. بقي أن نعرف أن الرويس هو اسم لقرية كانت تقع في شمال جدة، ثم أصبحت، في زمن لاحق، جزءاً منها وحياً من أحيائها. كتاب ممتع وقراءة ممتعة مضمونة لهذه التحفة الأدبية الصغيرة مبنىً والكبيرة معنىً.