هو يقول: «لا يليق بي أن أقضي العمر كله مسافراً إلى مدينة.. ثم لا أجدها في استقبالي.. أن تنتهي علاقتي بها قبل أن تبدأ، و أنا القادم محملاً بالأمنيات في تأسيس ذاكرة جديدة وأشواق مكتملة» لذلك هو يشعر دائمًا أنه وطن بلا خريطة.. كبر كما تكبر الكثير من الأمنيات في أماكن لا تشبهها. بين حارات جدة القديمة التي جاءها صغيراً نشأ كعود قصب، أطل برأسه من فتحة القدر ليجد نفسه يحمل عبء تاريخه، والمسافة التي تتباعد في كل مرة عن تلك المدينة التي يتلمس معالمها في قلبه ولكنه لم يسمع غناءها من قبل. حتى عندما كبر واكتشف صدفة أن له وطن آخر في ركن بعيد عن حارته لم ينكسر.. بل زاد شغفه.. وكبر الحلم فوق صدره كما تنمو الأعشاب على حواف الأنهار. كانت كل تساؤلاته عن الغربة.. والإنسان.. والوطن. ظل متماسكًا يفكر في ألوان بلاده.. والنشيد.. ويرسم خريطة يبدأ منها وينتهي إليها. من يومها و«حجي جابر» يعتني كثيرًا بالخرائط.. يتحسسها جيدًا لعله يجد مدينته التي كان يسمع عنها في حكايات أمه وهي تصف له الطرقات الحزينة، والحقول، والمنازل التي لم تغادر معهم. حجي وطن كبر واتسعت مساحته بين مدينتين.. «جدة» التي تشربها في كل خلاياه و«مصوع» المدينة الغائبة في ذاكرة شخص آخر والتي لم يجدها إلا في وجه «سمراويت». عندما ذهب ليعمل في قناة الجزيرة كصحفي مهتم بشأن الإرتري حفظ كل شيء عن وطنه.. المساحة وعدد السكان والتضاريس والحدود. ولكنه اكتشف أن ثمة ما هو أهم من التفاصيل الجامدة.. هناك دائماً الإنسان الذي يمنح الأوطان بعدًا آخر ومعنى أصيل.. فبلا إنسان تظل الأوطان مجرد صفحة لا قيمة لها في كتاب الجغرافيا. كل الذين قرأوا لحجي جابر كانوا يذوبون معه -في تفاصيله التي يعتني بها والمسافات المشبعة بالشجن- كما تفعل الشمعة في الظلام. فهو كاتب يتمدد بشراسة ويندفع كنهر «القاش» متجاوزاً كل عقبات الكتابة المرهقة ليجعل من حكايته نشيداً وسماء بلا ضباب. كتب عن وطنه الغائب باقتدار.. ورسم وجوه «الإرتريين» وكأنه قطعة ملح فوق موائدهم. في كل أعماله كانت «إرتريا» حاضرة .. كتبها من هنا وهي هناك.. ولكنه كتبها بصدق. فازت روايته «سمراويت» بجائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2012.. ليصدر بعدها «مرسى فاطمة» ومؤخرًا «لعبة المغزل». يقول الكاتب «محمد ديريه» عن رواية سمراويت (سمراويت .. عمل سيتذكره الإريتريون الناطقون بالعربية لأجيال عديدة، فهو الوحيد الذي تكلم باسمهم جميعا ولملم خيوط الحكاية باقتدار). حجي جابر.. روائي من فئة الذين يجعلونك تشعر بالشبع.. مقنع لدرجة السعادة، يخيل إليك من بساطته أنه يكتب وهو يركب حافلة النقل العام أو يجلس في مقهى شعبي مزدحم بالعابرين. حجي.. يشبه كل الذين ولدوا وراء الخطوط الهامشية.. مثل البسطاء الذين يطاردون الباعة المتجولين بين الزحام.. طفل غاية أحلامه دراجة وكرة أو حذاء جديد لعيد قادم. هكذا هم أبناء الحارات .. مجموعة من خلايا متشبعة بالإنسانية .. تسكنهم أوجاعهم حتى آخر المشوار.. يقول عن الأوجاع وحدها الأوجاع تصلح ذاكرة بديلة، أو تاريخًا موازيًا، نستند إليه حين يعيينا الوقوف فرادى في طريق طويل وموحش. حجي رجل عاش طفولته فوق بساط الحياة الأصيلة التي تقفز صباحاً فوق أسوار الأزقة المالحة وتغفو مساء بين حكايات الجدات عندما تتحدث إليه يسرقك ذلك الهدوء العميق داخله.. يخرج كلماته صادقة من بين أضلعه.. يسبقك إليك قبل أن تصل إليه، وكأنه يعلم جيداً، أو هو يعلم حقيقة أن العمر لا يستحق أن يكون ضحية لتلون الأقنعة. في عينيه وهج مدهش كذاك الذي نلمحه صدفة في أعين الأطفال وهم يحتضنون الحياة بلا خوف.. لا زال يرسم خطًا يصله بذاكرة أجداده هناك؛ يريده بلا تعرج.. ينطلق في خط مستقيم ليصل سريعًا إلى وجهته.. فالعمر لم يعد يحتمل المسافات البعيدة والمنحيات القاسية. حجي جابر إرتري جاء متأخراً.. ولكنه استطاع أن يعوض روحه كل سنوات الشتات.. ربما أراد أن يكفر عن ذنب لم يقترفه.. وربما أراد أن يعود لوطن اللحظات الأولى ويبدأ من جديد قصة وطن عاش جميلاً بين مدينتين. - محمد عسيري