الوطن.. مكان يحتفل بأبنائه. ويغني لهم كما تغني الأشجار للريح, كما تؤثّث السماء تفاصيل الأرض، كما تتعلَّق الآمال بحبال الرجوع للوطن الأم. فثمة احتضان سيولد في الركن الخفي من القلب. إرتريا.. هو ذلك الوطن الذي يجب. تلك الأرض التي تزينها الأعراق، وتتصل ذاكرتها بالحضارات والديانات والأعراف، تلك الأرض التي نالت منها الأطماع السياسية ما نالت من الجحيم. لكنها أصرت على أن تكون أرضاً لأبنائها، فتحرَّرت وأصبحت مثل لوحة لفان غوخ.. لوحة تستعير الطبيعة قلباً لكل الأبناء. * * * حجي جابر هو ذلك الابن الذي سكنت ذاكرتُه حبَ الوطن حتى أصبحت سواحل «مصوع» قريبة منه.. قريبة من ظله، واستجابت « أسمرا» لمشاهد رواياته وحركة شخوصها. فكسر عزلة «إرتريا»برواياته: سمراويتْ - مرسى فاطمة - لعبة المغزل - رغوة سوداء، حتى أصبح هذا الروائي هدية الأدب للوطن العربي. وبات اسما لامعا في الرواية العربية، واتجهت إليه أنظار القراء حيث التقنية السردية التي تميزه عن كثير من الكتاب، والقيمة الفنية التي يلون بها كتاباته الروائية. ورواياته ما هي إلا قصصًا متتالية.. كل قصة تنجو بأختها بفعل اشتغالات السارد النابعة من قلبه ككاتب يكون قلمه هو الطريق الذي يخطو به إلى أرض الحرية والعدالة والتحرر من نظام فاسد حوّل الجمال في إرتريا إلى قبح وتشرد. فأقبل إلى دولة زاخرة بالأمل اعتنت به منذ نعومة أحلامه فأصبح جزءاً مهماً فيها والتحق بركب الروائيين متحرراً من كبت النظام الفاسد ومقبلا إلى حياة أجمل. * * * في رواية «سمراويتْ» يقع بطل الرواية «عمر» في حب «سمراويتْ « تلك الفتاة المسيحية التي تمثّل له الوطن، لكنه يُصدم بنظام جائر لا يجوّز زواج المسلم من مسيحية. أي عدل هذا الذي يكتبه « حجي جابر» وهو العدل السماوي الذي نادت به جميع الأديان! كيف يتلعثم الحب في حضرة اللا وعي، وكيف يرسب الحب في حضرة الصلاة ؟ وكيف يقسو تراب الوطن على طينته؟ يا الله أي مشهد تقبله الحقيقة هنا يا حجي؟! دعونا نقرأ في «سمراويتْ» «الحقيقة» لا يليق بي أن أقضي العمر كله مسافرًا إلى مدينة.. ثم لا أجدها في استقبالي، أن تنتهي علاقتي بها قبل أن تبدأ، وأنا القادم محملاً بالأمنيات في تأسيس ذاكرة جديدة وأشواق مكتملة.كنتُ مرعوباً ألا تشكل «أسمرا» سوى خيبة أخرى تضاف لرصيد خيباتي المتخم». تلك الخيبة يا حجي أغلقت عليك جسور الحب فغدت سمراويتْ حزناً ورعشة فقد، ومكان لا يتسع لمشاعر الحب. * * * وهناك في «مرسى فاطمة» يتخذ «بطل الرواية» سلمى «وطناً مسالماً، يعشقها كثيراً، ويحافظ عليها. لأنها تمثِّل له الحب والوطن. فيتزوجا سرًا ويخفيا زواجهما وترحل «سلمى» لمعسكر تجنيد كما يشاع له، لكنها هي عند والدتها تخبئها كما يخبئ طائر صغيره من الافتراس. كلاكما يبحث عن الآخر في وطن يقتل الحب ويرجح كفة الألم على الحلم. ها أنت تعود يا «حجي» في تلك الرواية «مرسى فاطمة» تبحث عن حلمك الضائع، فتغدو في منتهى الشهقة التي لا تفارقك، ويوشح وجهك بالحزن، ويتعرَّى المكان من كل أبجديات الحلم والفرح يريد أن يصل إلى بغيته المتمثلة في الظلم والعدوان. لنتذكر ما جاء في هذه الرواية: «سلمى بالنسبة لي هي أيضاً حلم بحجم الوطن، بين يديها أشعر بالأمان، ولجبينها الأسمر أنتمي سلمى لغتي وحدودي وخارطة وعيي واحتياجاتي». خيبة تجر أخرى، وأنت عاجز عن النسيان، تفكر في نشيد الأحرار كيف ستنشده وأنت البعيد عن حلمك ومشتهاك. تفكر في مشهد الطيور الطائشة وهي تحلق بعيداً في السواحل لا تدرك اتجاهها، رغم مسافة الطريق الواضحة التي تدركها أنت يا «حجي» تدركها بأعماقك وتشتهيها قريبة منك. * * * هل ستعبث بحياتك يا جابر كما عبثت بمخيلتنا في «لعبة المغزل» عن تلك الفتاة الضائعة بين الحقيقة والواقع.. تلك الفتاة التي عبثت بالوثائق وسجلات رئيس الدولة؟ أم تلك الفتاة المجنونة والمقعدة والمريضة والقبيحة التي صدمتنا بها، وأدركنا كقراء أننا على حافة الضياع في هذه النهاية؟ أي جنون تمارسه يا حجي في رواياتك وهي تتغنى بالعبث وكأن الله لا يرى شيئًا؟ أي غربة تؤنسك وعقلك يمتحن كل نبوءة؟ أي طريق في مخيلتك تستطيع أن توصدها بالذكريات الأليمة؟ يا حجي! يا تعب السنوات، يا مُحلِقًا لم يحظ بدفء الوطن، ولم يأنس بسواحله! لا عليك يا صديقي.. فكل مكان تمشي عليه هو وطن لك، وكل خطوة تخطوها ستكون ختما لا يمكن إزالته حتى مع اقتراب اليوم الأخير من الحياة. هنا، حيث نقرأ في مغزل روايتك هذه العبارة عن الحياة: «هذه الحياة مملة أكثر مما ينبغي». * * * ألا زلت تبحث عن وطن بديل؟ ألا زلت تعبث بحياة شخوصك في رواياتك يا جابر؟ ما مصير داود, وديفيد، وداويت؟ بالله أسألك كيف حصلت على هذه الفكرة لروايتك «رغوة سوداء» وكيف تسللتْ من جموح عقلك إلى ورقتك؟ هل لأنك حجي جابر الفتى الإرتري والروائي الذي عشقه القراء؟ قل لي ما مصير عائشة تلك التي احبها بطل الرواية؟ أسئلة كثيرة تدور في خلدنا. إنها حقا رغوة سوداء سؤال الهوية / سؤال الديانة / سؤال الجنسية ... إنك تبحث عن الوطن في الغربة والمنفى. دعونا نقرأ في رغوة سوداء ما كان سيسأله: «حاول أن يجيب عن السؤال، غير أن لسانه قد بدأ يثقل، تمنى لو يستطيع خوض حوار مع الجنود من حوله. لا يريد الإجابة الآن بقدر ما يود طرح الأسئلة». لقد كنت مكتظاً بالأحاسيس في رواياتك قريباً من الحب، صادقاً في مشروعك الذي سيمتد، تجتازك الأيام وتدرك أن الحلم لن يخذلك، حماسك للكتابة هو من أجل الحقيقة ومن أجل أن تتفاهم حول مصيرك كإنسان يحق له ما يحق للآخرين. إنها ثورة الكتابة التي ستحرّر كل أحلامك، لأنك تنطلق من الكلمة تهندسها، لتصبح مثل كفاح ضد لعنات الحياة وضد المعاناة. فالكتابة لا يمكن أن تولد إلا من خلال الجرح.. الجرح العميق الذي يصعب التئامه، لكنه سيلتئم ذات يوم. ثمة أمر سأخبرك إياه يا صديقي! أنت كاتب تصنع هدفك في الحياة بكل هدوء، العالم الكبير ينتظرك تماماً كما ينتظرك قراؤك بعد انتهاء كل رواية تكتبها. نعم أيها الروائي الكبير إن ما يميز رواياتك هو شحنة الحب للوطن وتلك الرغبة في أن يكون وطنك «إرتريا» وطناً للصمود والحرية، وطناً للحب وبناء عالم الإنسان. تبحث في رواياتك عن ذلك الشخص الذي يفهمك ويعالج جسد الحقيقة، ويشاركك الألم. وما جائزة كتارا إلا دليل على أن العالم يفهمك حقًا. نحن هنا كقراء نجد في رواياتك شفاء من جفاف القراءة... صدقًا يا حجي لقد أبهرتنا وجميل أن نحظى بروايات قادمة لك، تخطها بتراب الوطن. ** **