قبل عدة عقود كانت الأيام الأخيرة من العام الدراسي ورش عمل لا تكف، وحدائق بهجة إبداعية لا حدود لها، يتبارى فيها الموهوبون والمميزون دراسياً لتقديم احتفالات تشمل كل الفنون من مسرح وإلقاء أدبي ومساجلات ومسابقات واحتفالات خطابية توثق علاقة الأبناء بتراثهم، وتنمّي فيهم روح المبادرة والقيادة ومواجهة الناس، ويُدعى إلى هذه المناسبات أولياء الأمور، ويحضرها قياديون في المؤسسة التربوية يعرفون جيداً قيمة الموهبة وأثرها في مستقبل الفرد والبلاد. تلك المناسبات كانت جزءاً أصيلاً من رسالة وأهداف المؤسسة التربوية، والأدبيات المكتوبة والمذكرات التي قدمها تربويون كانوا شهوداً على عصر ذهبي أثبتت ذلك بافتخار، لكن المشهد لم يستمر فأتت أياد في عتمة التحولات سيطرت على تفاصيل «المسرح» وآمنت بأهداف وآليات أخرى، وتسيّدت أناشيد بقوالب كارهة للحياة من فصيلة «فرشي التراب يضمني» وانتشرت فعاليات غسل الأموات، ومشاهد هول العذاب مصحوبة بالترهيب والتخويف وإغلاق كثير من النوافذ فدفع الموهوبون الثمن وشملهم النسيان والإهمال. أغلقت بعض المؤسسات التربوية مسارات الأنشطة حتى لا يتسلل منها رواد «المنهج الخفي» ومدمنو الخرافات الحريصون على غسل أدمغة الشباب.. رأى البعض في ذلك حلاً حقيقياً ودرأً لمصائب كبرى، وقد تناست أن هؤلاء المدججين بالمنهج الخفي في فصول مغلقة مع الطلاب قد يكون أذاهم أشد وطأة من الأنشطة الطلابية المكشوفة والعلنية، وفيها يمكن تدارك الخطأ، وكشف عتاة المؤدلجين. اليوم يبدو المشهد مجدباً والمدارس مقفرة في ظل شعارات عديدة لعل أكثرها بريقاً «مدارس رعاية الموهوبين» وهي في الأصل مشاريع احتفاء بالمتفوقين، ولم نر لها عناية بالمبدعين إلا في مجالات علمية، وبشكل محدود. تنازلت وزارة التعليم عن وكالة الوزارة للشؤون الثقافية مع نشوء وزارة الثقافة والإعلام فضعفت الأعمال الثقافية المتعلقة بالمدارس، ورحلت المكتبات العامة، وقد تحولت إلى جثث هامدة، وتقلص دور إدارة الأنشطة الطلابية، وخفت بريق المعارض الفنية التي قدمت للساحة مئات الفنانين، وكان يشرف عليها معلمون هم من أشهر التشكيليين السعوديين. من المؤسف أن تهمل القطاعات التربوية الإبداع والمواهب، وتقلص مواسم جني ثمارها، وتحاصر بيادرها بسلسلة من المسابقات المعلبة مسبقة الصنع فقيرة الأثر مثل «الإلقاء الفردي» و»الجماعي» و»الإنشاد» حيث يتقاطر الطلاب بشكل نمطي إلى لجان تقيدية لا يعرف أحد انتماءها إلى ساحة الإبداع والثقافة، ثم يعود المتسابقون بتصنيفات «لا طعم لها ولا لون» تتكرر كل عام. ينتمي إلى ميدان التربية والتعليم عدد كبير من الأدباء والمبدعين والفنانين والمسرحيين لكنهم غائبون، أو «مغيبون» عن الأنشطة الطلابية والتخطيط لها أو الإشراف عليها، وبعضهم يدير مؤسسات ثقافية كالأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون ولهم نشاطات خارجية، وآخرون منهم يحصدون جوائز داخل البلاد وخارجها، ولا أظن لدى الإدارة التربوية العليا قاعدة بيانات بهؤلاء وتخصصاتهم ومدى الاستفادة منهم! تجاوزت عمليات التعلم أسوار المدارس التي تنازلت عن مهامها فاختطفتها وسائل أخرى، وتناثر المبدعون في مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الافتراضية، يغامرون، ويجربون وبعضهم سيصل حتماً، لكن تركهم بلا رعاية جناية كبرى وخطأ تتحمل الجهات التربوية الجزء الأكبر منه مهما تناسته أو تنصلت منه. ومن ظريف ما يروى هنا الاتفاقية التي وقعها النادي الثقافي بجدة وإدارة التعليم قبل خمس سنوات بدعوى رعاية المواهب وتبادل الخبرات، ولا أذكر لها أثراً في الميدان ولا برامج حقيقية، ويبدو أنها ظلت حبيسة «جعجعة التصريحات» مع قليل من نوايا ومساحات التنفيذ؟!.