المتابع للإنتاج العربي وحتى الغربي لا يخفى عليه أن «السرد الاسترجاعي» أو كتابة السيرة الذاتية فن مستحدث قابل للفهم عند الغرب أكثر من قابليته عند العرب. كتابة السيرة واسترجاع ما عشته، وما قمت به في سالف عمرك، وأخبار رشدك أو طيشك، وضعفك أو جبروتك، فن يتطلب الإبداع مع الشجاعة في الوفاء للماضي والصدق مع النفس والقارئ. ومن منا يرغب أن يكون صادقًا مع نفسه والقراء لا بد أن يلاحقه نقدٌ اجتماعي يُقدس مفهوم الستر على حياة الإنسان، ويهتم بجدوى الحكمة في إغلاق الستارة على ماض رحل بأهله وخيبته. فما جدوى أن تعرف الناس أن الشخص الذي تتجمهر حوله هذه الألوف من البشر، وتلتقط له الصور وتسعى لاقتناء كتبه، أو الاستناره برأيه ودربه كان سارقًا فيما مضى، أو مدمنًا على الكحول، أو حتى يعاني من مرض عضال، أو عقدة تستنزف حياته وتقتات على شواء أعصابه؟! بعض الناس دون سابق معرفة أو حتى عداء حين يرون الناجح لا يطيب لهم نوم حتى يتم البحث في تاريخه عن سقطة لتلوين وجهه بالخزي والعار، والناحج الفطن يتحاشى أن يسقط حتى لا تلوك أخباره الناس، فهل يعقل أن يُهدي لهؤلاء تاريخ سقطاته، وأسباب ودوافع زلاته، وأهم وأغلى لحظاته! أجزم أن من يقوم بهذا هو واحد من اثنين: إما شخص فهم الحياة وفهم طبيعة البشر المركونة في أعماق الذات الإنسانية، وراح يواجه الناس بها، ويرشدهم بالضوء المسلط على الظلمة الموغلة في عوالم بعيدة، رغبة في نشر وثائق يتجلى فيها عمق الشعورالإنساني، وحقيقة الخطأ المجبول عليه هو وغيره من البشر تاركًا لهم حرية التأمل والخيار في التعامل مع الخطأ والمضي فيه أو الحد من نتائجه. وإمّا أن تكون الإنسانية برمتها لا تعنيه ولا هذا الكوكب ومن فيه، لهذا يشمّر عن جرأته ويكتب ما يعتقد أنه إنجاز عظيم، متوهمًا أنه -بهكذا إفصاح- بلا أقنعة، بعكس أولئك الذين تجنبوا الخوض في رواية سيرتهم الذاتية! «الخبز الحافي» لمحمد شكري كأنموذج.. ما مدى استفادة الأدب العربي منها، وحتى العالمي؟! فهي لم تكن مرجعًا وثائقيًا تاريخيًا أو حتى أدبيًا يعول عليه، كل ما هنالك أني معها وفيها تعاطفت مع أهله الذين يظنون أن تاريخ صاحب السيرة سيؤثر على سمعتهم بشكل أو بآخر! كما تعاطفت مع محمد شكري -رحمه الله- في تجربته الموجعة مع الناس والحياة التي لا بد أنها تركت فيه مواجع ستُبعث ببعثه، ورغم هذا أنا لا أبرر له ولا أراه أديبًا ولا صاحب وعي ولا حتى كاتبًا في «الخبز الحافي». كقارئة خرجت بقناعة أدبية وأخرى اجتماعية من تجارب رواية السير الذاتية التي قرأتها: من الناحية الأدبية أن الإبداع يجب أن يكون مرافقا لكتابة السيرة.. والاهتمام بالنواحي الفنية والأسلوب لا يعني تجميل حياتك بمساحيق خافية للعيوب بل يعني أنك تبدع في استخدام مهاراتك الكتابية في الكتابة عن الحقيقة. ومن الناحية الاجتماعية تعلمت أن الناس أمام أخطائك تتخذك عبدًا وعليها أن تقوم بدور الإله. - نادية السالمي