نمر على أكشاك الصرافين للعملات في المطارات وفي الفنادق، ولا يخطر ببال أحدنا أن كل صراف من هؤلاء الصيارفة هو أحد صُناع سوق العملات بالمفهوم الحقيقي العلمي لصانع السوق. فصانع السوق - أي سوق - بشكل عام هو شخص حقيقي أو اعتباري - كشركة - يحتفظ بمخزون من بضاعة معينة يعرض البضاعة نفسها للبيع وللشراء في الوقت نفسه بهامش سعر أعلى في حالة البيع، وأقل في حالة الشراء عادة. ولذلك سُمي بصانع سوق. فهو بعمله هذا يخلق سوقاً تتداول فيها البضاعة. فصانع السوق هو البائع والشاري في الوقت نفسه. ومصطلح صانع السوق ليس وضعا خاصا بسوق العملات أو الأسهم، بل هو موجود في أغلب الأسواق كسوق السندات وسوق المعادن والسلع وسوق المشتقات وغير ذلك من الأسواق. ورغم أن جوهر عملية صناعة السوق لا يختلف من سوق إلى آخر - وهي إيجاد سوق لسلعة معينة - إلا أن تفصيلات القيام بمفهوم هذا الجوهر والامتيازات التي تمنح لصانع السوق تختلف اختلافاً شاسعاً من سوق إلى سوق، ومن بلد إلى بلد. ففي أشهر بورصة في العالم، بورصة نيويورك للأسهم، يكون السهم حكراً على شركة واحدة ويُسمى صانع السوق «المتخصص» فهو متخصص بذلك السهم. ولا يعني هذا أنه هو الجهة الوحيدة التي تملك بيع وشراء ذلك السهم، فهناك عدة جهات يمكن أن تشتري وتبيع ذلك السهم -كالوسطاء الفعليين أو عبر الإنترنت - ولكن الاحتكارية هنا بألا يُعطى هذا المنصب «المتخصص» في بورصة نيويورك للأسهم إلا لشركة واحدة. وقد يقول عاقل: إذن فهذا الاحتكار لا فائدة له. وهذا إيراد صحيح إلا إذا علمنا أن المتخصص له امتياز لا يكون لغيره وهو حق الاطلاع على جميع المعلومات المتعلقة بعروض الشراء والبيع الخاصة لذلك السهم فيستطيع أن «يفرق السوم» بسنتات ويحصل على الصفقة. ولكي أوضح المسألة، فلنشبه من يعرض السهم على السوق سواء بالبيع أو الشراء وكأنه مناقصة تُعرض على تداول وعلى الشركات وعلى المتخصص، ولكن المتخصص - أي صانع السوق - هو وحده من يعرف الأسعار المقدمة من الجهات الأخرى فيفرق السوم ويبيع أو يشتري السهم. فبهذه الطريقة يستطيع المتخصص أن يحقق هامش الربح بين البيع والشراء، كما يستطيع السوق أن يحدد سعر السهم في حالات السوق الطبيعية وكذلك في الحالات التي يقف فيها المتخصص وحيداً عكس التيار، أي حالات الانهيارات والطفرات، حيث يجب على صانع السوق المحافظة على استمرارية البيع والشراء، ويمكنه في حالات خاصة مقننة طلب توقيف السهم عن التداول. وأما في سوق النازداك الأمريكية الحديثة - وهي مثل «تداول» عندنا، أي ليس هناك موقع معين يلتقي فيه البائع والمشتري خارج الشبكة الرقمية - فهي - أي النازداك - لا تُخصص السهم لشركة واحدة بل لمجموعة من الشركات المتنافسة وتلزمهم بالمحافظة على ديمومة عروض الشراء والبيع على شاشاتهم. وعوضا عن احتكارية السهم، فإن إدارة سوق نازداك الأمريكية تقدم لصُناع سوقها امتيازاً باستخدام أداة غير قانونية، ألا وهي البيع على المكشوف العاري. والعاري هو أن يبيع المضارب أسهماً لا وجود لها وهو غير قانوني، وأما البيع على المكشوف العادي فهو أن يتملك المضارب الأسهم عن طريق شرائها بالأجل ويكون الثمن هو الأسهم نفسها مع زيادة مالية ويسمونه هناك «اقتراض الأسهم» لأنه استبدال شيء بمثله (وقد كتبت سابقا مقالات في حقيقة وكيفية البيع على المكشوف وأثره في السوق وشرعيته والفرق بينه وبين البيع على المكشوف العاري فليرجع إليها لمن أحب التفصيل). فصُناع سوق نازداك يستطيعون بهذا الامتياز أن يحافظوا على استمرارية البيع والشراء في حالة نفاد مخزوناتهم من الأسهم المخصصة لهم والذي هم ملتزمون بتوفير سوق البيع والشراء لها. فتجدهم في حالات صعود السوق القوية يبيعون الأسهم وهم لا يملكونها (لم يقترضوها كما في البيع على المكشوف العادي) أي يبيعون أسهما لا وجود لها أصلا، فيخففون بذلك من حدة صعود السوق ثم يعودون فيشترونها بعد بيعها في فترة لاحقة، فهم بذلك ضخوا أسهما لا وجود لها ثم عادوا فسحبوها. ( كما فعلت البنوك عندنا في اكتتاب الأهلي، ولكن فعلته بالنقد السعودي ، فأقرضت ما لا تملك ، أي أنها أوجدت اكثر من مائتي مليار ريال سعودي لم تكن موجودة، فكأنها باعت النقد السعودي على المكشوف بيعا عاريا، فحرفت بذلك حقوق التخصيص ، وما فعلته البنوك يعد في حقها تزويرا للنقد السعودي وانكشافا لها، ويعد في حق سوق الأسهم ممارسة غير قانونية تشبه البيع على المكشوف العاري، ولا يجادل في هذا إلا جاهل أو مزور للحقيقة). وعودة لصناع السوق، فقد يربحون إذا استطاعوا أن يكبحوا جماح صعود السوق، وأما إن تعداهم السوق إلى مستويات أعلى فسيخسرون خسارة عظيمة أحيانا بسبب حتمية شراء الأسهم بأسعار أغلى والتي باعوها - وهم لا يملكونها - من أجل سحبها من السوق. وأما في سوق الأسهم في لندن فصانعو السوق يتمتعون بأن يكون عرض الأسهم بيعاً وشراءً حكراً على شاشاتهم مما يدفع غالب المستثمرين العاديين - والذين ليس لهم اتصالات داخلية - إلى الشراء من صناع السوق دون غيرهم. وعندنا في سوق الأسهم السعودية لا يوجد صناع السوق. وأكثر الناس يعتقدون أن كبار المستثمرين هم صناع السوق، والصحيح أنهم إما مستثمرون أو مضاربون لا صناع سوق. بل إن بعضهم يقوم قصدا بعكس عمل صانع السوق. فترى بعض هؤلاء يشل حركة السهم ويوقف سوقه ارتفاعاً أو انخفاضاً. وهذه الفئة كذلك هي من تسبب تذبذب السوق الذي من أجله أوجدت الأسواق العالمية صانع السوق ومنحته امتيازات هي غير قانونية في الأصل كالاحتكارية أو البيع على المكشوف العاري أو التفرد في الدعاية لنفسه دون السماح لغيره. والأحاديث حول إيجاد صُناع سوق لسوق الأسهم السعودية يتردد من حين إلى آخر، من أجل استقرار السوق. ولكن هناك اعتراض عقلي سائغ في الوقت الحاضر، وهو أن سوق الأسهم السعودية لا تزال في طور المراهقة، وثقافة المستثمرين لا تزال متدنية. وعليه فإن السوق تحتاج إلى شبه متبرع يقوم بعمل صانع السوق مؤقتا حتى يُسلم المهمة مستقبلاً للقطاع الخاص بعد أن يثبت بالتجربة الفعلية أفضل وأنسب الأُطر القانونية التي تحكم صانع السوق ويتحدد بالتجربة الحقيقية الامتيازات التي يجب أن تُمنح لصانع السوق والواجبات التي يجب عليه القيام بها وحتى يكون الناس على الأقل قد وعوا وفهموا معنى صانع السوق، وشاهد ذلك أن لكل سوق في العالم طريقته الخاصة في تعامله مع صانع السوق. والمناظرة العقلية في ذلك تطول وماهية صانع سوق الأسهم السعودية وامتيازاته وواجباته تحتاج إلى تفاصيل ومعلومات لا تتوافر إلا لمن بيدهم صُنع القرار.