القصيم أرضاً وأهلاً لهما مكانة ومحبة ووفاء في قلب كل مواطن عايشهم وشاركهم لقمة العيش وكفاح الحياة.. القصيم أخرجت الرجَال الذين جالوا وصالوا وكابدوا جيلا بعد جيل خارج الوطن وداخله من أجل إثبات الذات بالعزيمة والصبر والكفاح وقلّة الموارد.. الكثير منهم عانوا في أيام شغف العيش وانتقلوا من وطنهم لوطنهم ولرحابة وسعة صدر الرجل القصيمي الذي اندمج مع أهالي تلك المناطق وشاركوهم العمل والعلم.. عرفت الكثير منهم في طفولتي وشبابي، وفي هذا السنّ من عمري المديد أن شاء الله في منطقة عسير تحديداً في مدينة أبها) كنّا نحن وهم أسرة وجيران وأرحام وأهل وخاصة أسرة الشيخ الفقيد نتقاسم كما يقال لقمة العيش.. والقائمة بهؤلاء الرجال الكرام الأوفياء تطول ولن تنساهم جبال ووديان وسهول أبهاالمدينةالجنوبية السياحية الجميلة التي سحرت طبيعتها وكرم أهلها أبناء القصيم بالذات ومنذ الستينيات الهجرية بالإقامة والتزاوج فيها حتى أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من هذا النسيج الاجتماعي فيها.. الحديث ذو شجون حول قصة هذا الارتباط الأزلي والعاطفي بين القصيموعسير قام بتأسيسه وبنائه هؤلاء العمالقة من الآباء رحم الله من فارق الحياة الدنيا وجعل في الأحياء منهم آباء وأبناء الخير والبركة. ما دعاني لهذه المقدمة المختصرة الكتاب التوثيقي الرائع الذى قام بتأليفه وجمعه أخي د. مساعد بن إبراهيم الحديثي عن والده العالم والشيخ الجليل إبراهيم الراشد الحديثي غفر الله لنا وله وأسكنه فسيح جنانه وجعل في أبنائه من بعده القدوة الحسنة ومما لاشك فيه ان مثل الإصدار الثمين الذي يستحق القراءة والتمعن هو من عمل البرّ والوفاء لوالد عالم فقدناه ليس له منّا جميعا بعد أن انتقل لدار الفناء الاّ الدعاء بالرحمة والمغفرة لما قدّمه طوال حياته التي قاربت المائة عام من عمل وخدمة لدينه ووطنه وولاة أمره في كافة المجالات وخاصة مجال الدعوة والقضاء الذي يشهد الله انه رحمه الله أبْلى بلاءً حسناً فيه لم يكن قاضياً في مكتبه بل كان يجازف ويتجوّل ويتنقّل بواسطة (الدّابة) من قرية لقرية لإطفاء الحرائق ودرء الفتنة وتجاوز الخلافات بين القبائل والأفراد ليحكْم بالعدل والرضا والتراضي بين النَّاس، كان الشيخ إبراهيم- رحمه الله- إنسانًا بشوشاً سهلاً مرناً من هنا ملك قلوب البسطاء والعامة والذين كانوا ينظرون لمجيئه لهم وتكبّد المصاعب بكل التقدير والاحترام. كيف لا وهو يحضر ويحلّ مكلة صعبة مرّت عليها سنون في لحظة ويعيد الطمأنينة والسلام لقبيلة أو أفراد كادت الدماء أن تسال بينهم. وقد ذكر المؤلف بك موقفاً من موافقه- رحمه الله- في هذا المجال (بأنه كان هناك قضية أرض شاسعة متنازع عليها بين عدد من القبائل المتجاورة وقد سببّت هذه القضية الفرقة والعداوة والبغضاء بين المتخاصمين لصعوبتها ولمسائلها الشائكة والمتداخلة، فانبرى لها شيخنا ووفقه الله لإنهاء النزاع بحكم أرضى جميع الأطراف وحاز على موافقة الجهات الشرعية العليا كما نال تقدير ولاة الأمر لكونهم يحرصون على حقن الدماء وإزالة البغضاء، وتم إقفال ملف هذه القضية. هذه واحدة من آلاف القضايا التي تم حلّها بفضل الله ثم حنكته ومرونته وسعة صدره. كتب مقدمة الكتاب ابنه الأكبر قدراً ومكانة الشيخ الجليل محمد بن إبراهيم الحديثي الذي تولّى رئاسة المحاكم والقضاء في عسير بعد تقاعد والده، وكان أمده الله بصحته وعافيته يسير على نهج وخطى والده ويتمتع بصفاته علماً وأخلاقاً ووفاء كتب بعاطفة الابن البار العطوف بوالده وقال (لا نريد لهذا الكتاب أن يكون مجرد لقصة وحياة الشيخ الوالد رحمه الله لكن نهدف إلى أن يتعلّم منها الأجيال كم عانى الأبناء والأجداد من شظف العيش وصعوبة الحياة وكم قدم وبذل لينعم هذا الجيل وما بعده بالراحة والهناء) وأضاف هذه السيرة تعلم الأجيال أن الشدائد تقوّي النفوس وتخلق الفرص وثمرتها مع الصبر النجاح والفلاح تنقل الشيخ إبراهيم رحمه الله من ثول والقضيمة في بوادي الحجاز إلى بارق فالنماص فالقنفذةفأبها، فترك خيرات كثيرة وتجارب عديدة ومسيرة حسنة وذكريات ماتعة ستجدونها في هذه السيرة. وقال المؤلف د. مساعد عن والده سيجد القارئ الكريم بين ثنايا الكتاب شواهد ومؤشرات على القدرة العجيبة لبعض الناس ممّن وفقهم الله لتلك المزاوجة بين التمسك بالدِّين الحق وممارسة الحياة العصرية بكل متطلباتها فقد سافر والدي رحمه الله إلى خارج الوطن للسياحة عدة مرات، وكان يشاهد التلفاز ويستمع للمذياع ويقرأ في كتب الشعر والأدب ويتابع الأخبار السياسية باهتمام بالغ حتى أنه يعرف مواعيد نشرات الأخبار) وكان أول من رفع الأذان في شهر جمادى الآخرة عام 1404 هجرية عندما حان وقت صلاة الظهر عندما كان في زيارة لمبنى الأممالمتحدة، واستعرض الكتاب والكاتب مولد شيخنا- رحمه الله- وحياته العملية والعلمية وعلاقته بولاة الأمر ورحلاته حول العالم ومراسلاته للجنودوالمرابطين على الثغور وولاة الأمر والمشايخ والعلماء وأعماله التطوعية واهتماماته وتفرقه للتعليم وأبرز طلّابه ومؤلفاته ونتاجه العلمي وصفاته الخَلقيّة والخُلقيّة ووصيته وزوجاته وأبناؤه وبناته وكيف كان في عيون محبيه وأخباره وما نشر عنه من مقالات وقصائد، ولد الشيخ إبراهيم بن راشد بن إبراهيم بن عبدالكريم الحديثي في فجر أحد أيام عام 1322 هجرية في مزرعة الحديثية بالبكيرية ويعود نسبه- رحمه الله- لقبيلة بني زيد القضاعية القحطانية، تربّى ونشأ في كنف والده ووالدته خديجة بنت رميح الرميح وكان لوالده في حياة الطفل اليافع إبراهيم الأثر الكبير في مسيرته حيث التحق عام 1328 هجرية وهو في السادسة من عمره بمدرسة أهلية في مسْقط رأسه البكيرية وكان يرأسها الشيخ محمد العلي المحمود ومعه الشيخ سليمان بن عقيل الراجحي فتعلم القرآن الكريم ومبادئ الدين الحنيف لمدة عام انتقل بعدها لبلدة الشّنانه إحدى القرى التابعة لمحافظة الرّس حيث كان يقيم جدّه لأمه الشيخ العلامة رميح السليمان الرميح فتعلم على يديه واستفاد أيضاً من ملازمته لخاله الشيخ عبدالله الرميح فحفظ القرآن الكريم كاملاً عن ظهر قلب وهو في هذا السن الصغيرة، وكان يقول فقيدنا (بأنهم كانوا يحفظون القرآن الكريم ويراجعونه أثناء ذهابهم لجمع العشب للماشية أو ما يعرف في اللغة العامية ب (حش العرفج).وغير ذلك من حفظ مجموعة المتون وثلاثة الأصول والتوحيد والعقيدة الواسطية وهو لم يبلغ سن الرشد. وبعدها تواصلت تنقلات عالمنا وشيخنا من مكان لآخر للتزود بالعلم والمعرفة التي كان لها بأن تؤتي ثمارها وأكبر دليل انتقاله- رحمه الله- من مُزارع بسيط لعالم جليل من أعلام العلوم الشرعية من توحيد وفقه وحديث وتفسير وفرائض ولغة عربية وغيرها وأصبح بفضل الله يشار له بالبنان.وفي عام 1346هجرية وحينما بلغ الشيخ إبراهيم الرابعة والعشرين استقبل جلالة الملك عبدالعزيز- رحمه الله- في مكتبه بالداودية بجوار الحرم المكي الشريف القادمين من القصيم ووجههم للعمل بوادي الحجاز لتعليم الناس أمور دينهم ومحاربة الجهل والخرافات ووقع الاختيار على أن يذهب الشيخ وبعض من زملائه إلى قرى القضيمية وثول شمال مدينة جدة وخلال تلك الفترة أي في عام 1352هجرية رزقه الله بابنه البكر (محمد) في مدينة البكيرية. واستمر على هذا المنوال خمسة عشر عاماً حيث كان يعود للبكيرية خلال شهر رمضان المبارك لزيارة والديه ويؤم الملين في أحد مساجدها ورزقه الله خلال تلك الفترة بعد محمد براشد وعبدالعزيز وصالح، وبعد هذه المسيرة رأى ولاة الأمر وبعد أربعة عقود من طلب العلم الشرعي وبالتحديد عام 1360 هجرية صدر الأمر الملكي الكريم بتعيينه قاضياً في بارق في تهامة عسير التي يروي عنها قصة بأن أحد أصدقائه سأله أين تم تعيينك فقال- رحمه الله- في جنوب البلاد فقال له أعانك الله لأنها كانت آنذاك بعيدة جداً لوعورة طرقها وانعدام وسائل النقل اليها. وتزوج الشيخ زوجته الثانية والتي أنجبت خلالها د. عبدالله (رجل الأعمال المعروف) وبنتان وهما خديجة وحصة وبعد عام رزق بابنه عبدالرحمن وانتقل للنماص بعسير قاضياً ومفتياً وخطيباً للجمعة وكان دوماً يبدي إعجابه بها وطبيعتها الخلابة واستمر عمله بالنماص حوالي ثلاثة عشر عاماً انتقل بعدها للقنفذة وتزوج من زوجته الثالثة التي أنجبت له (علي) (نائب الرئيس بمحطة ال Mbc) وفيما بعد (سليمان) القاضي بإحدى محاكم الرياض و(د. مساعد) وكيل وزارة الشؤون الإسلامية للتوثيق ومؤلف السيرة (وأحمد وأسماء وخالد وابتسام وفاطمة وماجد ونوال) ومن زوجته الرابعة والتي أنجبت له (سعود وهند وهدى وعبداللطيف وهناء) ومكث في القنفذة حوالي الخمس سنوات. وفي عام 1378 هجرية صدر الأمر الملكي بنقله إلى مدينة أبها قاضياً ورئيساً للمحاكم الشرعية فيها والتي استمر يمارس القضاء والتعليم والتهذيب بإخلاص وتفان فبلغ بذلك مكانة عالية ومرموقة حتى عام 1392 هجرية وعندما بلغ السن النظامية للتقاعد ولما له من دراية بكيفية إدارة الأمور رأى ولاة الأمر الحاجة لخدماته تمّ التمديد له بأمر ملكي واستمر رئيساً لمحاكم عسير حتى عام 1312 هجرية حتى تقاعد بشكل نهائي بعد التمديد له حوالي عشرين عاماً في حالة نادرة الحدوث بمعنى أنه استمر في القضاء حوالي اثنين وخمسين عاماً ووصل عمره حينها تسعين عاماً وكان يتمتع بصحة جيدة حيث رزق بآخر أبنائه (حسن) وكان يبلغ سنّه 98 عاماً. وكانت علاقته رحمه الله بولاة الأمر علاقة فريدة ومتميزة بدءاً من الملك المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه مروراً بأبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله جميعًا، حيث استقبلهم في منزله بأبها ويقوم بزيارتهم أثناء زياراته للرياض ومواسم الحج وكانوا جميعا يبادلونه التقدير والثقة به في كثير من القضايا. نال على أثرها على عدد من الشهادات التقديرية والدروع التذكارية من جهات متعددة داخلالبلاد وخارجها ومن أهمها الشهادة الموقعة من الملك فهد بن عبدالعزيز- رحمه الله- والتي قال فيها (أن فضيلة الشيخ إبراهيم الراشد الحديثي من خيرة العلماء. ومن الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإماراتالمتحدة باعتباره رائداً من رواد العمل الاجتماعي على مستوى منطقة الخليج. وشهادة شكر من الأمير خالد الفيصل أمير منطقة عسير الذي تعامل معه سنين طويلة والذي كان يأخذ برأيه والاستعانة به في كثير من القضايا التي تتعلق بشئون المنطقة في غير القضاء. وتحدّث الكاتب عن الحب المتبادل بين الراحل العلاَّمة ومدينة أبها بأنها كانت وجدانية، وكانت حافلة بالمواقف العظيمة التي يذكرها أهلها بكل تقدير وإجلال وحلّ الكثير من الخصومات المستعصية والشائكة بين القبائل والأفراد، وأصبح بذلك مرجعاً معتمداً في أحوال المنطقة وأوضاعها عرفهم جميعاً وعرفوه وأحبّهم فأحبّوه وكان بعد كل عصر يجلس في منزله ويستقبل الكثير من كل مكان كلاّ حسب حاجته لحلّ مشكلة أو قضاء حاجة كل هذا لم يأتِ من فراغ وإنما لما عايشوه من خصال حميدة طوال نصف قرن والنَّاس شهود الله في أرضه وأنا محدثكم أحدهم وقد عبّروا عن تلك المشاعر في جميع مناسباتهم شعراً ونثراً وما إطلاق اسمه على أحد الشوارع الرئيسة في مدينة أبها إلا دليل واقعي على ذلك، وهناك الكثير من العناوين الجاذبة في الكتاب كمراسلاته للجنود المرابطين على الثغور، وكم أتمنى أن تتم طباعتها لجنودنا البواسل في الحدّ الجنوبي اليوم لتكون حافزاً لهم ومراسلاته لولاة الأمر والعلماء والمتنوعة وصفاته ومرضه ووصيته وما كتبه الكتّاب ومحبّوه عنه بعد وفاته وما وصل إليه أبناؤه البررة من مراكز مرموقة فإنني أتركها لكم للاطلاع عليها في هذا الكتاب الوثيقة الذي أرى ومهما حواه من سيرة فإنها مختصرة ولن توفي للراحل حقّه من الوفاء والعطاء والنّبل والحكمة وسعة الصدر وكم أتمنى وفيهم الخير من قضاتنا الشباب الأفاضل اليوم التّعلم من هذه المدرسة الجامعة وقراءة هذه السيرة العطرة وما فعله شيخنا طوال حياته من أعمال وعمل وعلم وحلم خدم بتلك الصفات الحميدة دينه ووطنه وولاة أمره ومواطنيه.. الشيخ إبراهيم الراشد الحديثي رحمه الله وغفر له كان عالماً ابن عالم كان نادراً مثله في حياتنا المعاصرة يحكم بالعدل بكتاب الله وسنة رسوله الأعظم ببشاشة وكما قلت بحلم وعلم رحم الله وغفر لشيخنا الكبير وأسكنه فسيح جنانه وجعل في أبنائه وأحفاده وطلابه الخير والبركة والقدوة الحسنة.. يا رب. - عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب آل الشيخ