يخشى العاقل سرعة خسران من يتحمّس له بغلو, من يثني عليه كُلّما رآه, ويتعصب له أمام الجميع بسبب, أو بدون سبب. ذلك لأنّ الإنسان بطبيعته, مع كثرة المبالغة, قد يفتر، ويملّ، ثم ينقلب مع الوقت إلى نظرة مُغايرة لما كان عليه. هذا التغيير ربما يكون من مجرد تصرف قد لا يعجب هذا الشّخص المتعصب، حتى لو كان تصرفك معه في منعه تصرفًا مهذبًا. فبعض المبالغين في حبّهم - حتى وإن كانوا صادقين جدًا - سرعان ما تتبدل مشاعرهم إذا شعروا بأنّك قد تصدّهم في أمر لا يحق لهم السؤال عنه من تفاصيلك الصغيرة. فهم يرون أنّ هذا الحبّ العظيم يستحق أن يكون بوابة الدّخول المباح إلى عالمك, فلا يعودون يفرقون بين ما هو عام, وما هو خاص, وما هو خاص الخاص.. بين أن يحبوك دون تطفل, وأن يتطفلوا لأنّهم يحبونك. هؤلاء - إذا كنت مهذبًا - سيربكون مشاعرك, وستكون معهم أسيرًا بين نارين؛ فأنت لا تستطيع أن تطلب منهم مباشرة أن يبتعدوا قليلًا؛ لأنّ المسافات القريبة قد تخنقك، وقد تجعلك مع مرور الوقت باهتًا, وهم باهتون. هؤلاء لن يستوعبوا أنّك بطلب المسافات تحافظ عليهم أكثر. لن يُقدّروا بأنّ التّورط لأبعد من العلاقة المتزنة قد يُؤذيك؛ لأنّك شخص قد تكون مشغولًا, ومسؤولًا أيضًا، أو ربما إنّ شخصيتك لا تحبّ كسر الحواجز - الأسرار خاصّة - كيفما اتفق. لن يتفهموا بأنّ لطافتك كإنسان يمكنها أن تحتفظ بخصوصياتها دون أن تُؤذَى, أو تُؤذِي. لن يستحضروا صدق مقولة: (إنّ الشيء إذا تجاوز حدّه انقلب إلى ضده). هذه العلاقات المبنية على الغلو سرعان ما تتلاشى؛ كفقاعة الصابون الضّخمة فور ملامستها سطحًا صلبًا. هي ضخمة، لكنها سرعان ما تزول! يشبه هؤلاء المغالون في حجم الانزعاج والإزعاج أولئك الذين يسكبون أسرارهم في جيبك؛ لأنّهم ارتاحوا لك لحظة حديث عابر. هؤلاء يجعلونك ترتطم بالدهشة مع الوقت, عندما يتوجسون مِنك خِيفة، ويشكون بأنّك قد تشِي بهم في أي وقت, وعند أي شخص؛ لأنّ سرهم في حوزتك! هؤلاء تتمنى لو لم يخبروك بشيء؛ حتى لا تقع فريسة لظنونهم السوداء. وربما تُحدِّث نفسك بعدهم بأن تسن لك قانونًا خاصًا بك؛ يمنع الآخرين من الاسترسال معك في الزج بأسرارهم؛ حتى لا تشعر بأنّك ربما يُزج بك في دائرة شكوكهم ذات يوم. إنّ العلاقات الإنسانية شائكة, وإن بدت لنا على أنها سهلة يسيرة؛ ذلك لأنّها تحتاج إلى الكثير من الصبر, والكثير من الحزم أحيانًا؛ لتبقى على مسافة يمكنك معها التحكم في حدود علاقاتك. إنّ جَمال العلاقات الإنسانية في هدوئها, واستقلاليتها؛ فقد أكون أنا منك, وأنت مِنّي, لكن لكلّ واحد مِنّا مجرته الخاصّة, يسبح فيها دون قيود, وبكلّ استقلالية. ليس علينا أن نُسخّر الآخر؛ ليكون أداة تنتقل ملكيتها مقابل الإسراف في المشاعر؛ فالمشاعر الصادقة نعمة, قد تتحول إلى نقمة عندما تقوم على المحاصرة, والتّرصُّد, وحبّ التّملك. ولن نجد في هذا الشأن ما هو أصدق وأحكم من قول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في تحديد المسافة في العلاقات حبًّا وبغضًا: «أحبب حبيبك هونًا ما؛ عسى أن يكون بغيضك يومًا ما. وأبغض بغيضك هونًا ما؛ عسى أن يكون حبيبك يومًا ما».