هذه النظرة المحكومة بثنائية نحن والغرب الكولونيالي هي موجه مركزي في كثير من مواقفنا الثقافية والفكرية والعلمية، وبناء على ما يقدمه الجزار من كون المصطلح العلمي هو أخطر حامل للإيديولوجيا (إيديولوجيم) (1) فلن يسلم أي علم من الإيديولوجيا، ومن ثم يجب أولاً تنقية العلوم ليس من قبل إيديولوجيتها بل من إيديولوجيتها الخفية ليس للابتعاد عن الإيديولوجيا لمزيد من العلمية بل للحفاظ على الإيديولوجيا المستوردة للمصطلح من الإيديولوجيا المصدرة له.. ويحاول الجزار أن يبحث عن مصطلحات ما قبل إيديولوجية وقد بحث عن ذلك في الأيقونة وفي الصورة، وفي نظري أن ذلك مستحيل بناء على ما قرره هو في علاقة الإيديولوجيا بالمصطلح، لأن الأيقونة (التي معناها الحرفي في اللغة الإغريقية: أن يكون مشابهاً ل) تعد أكثر إشكالاً مما صورها بيرس فلكي تكون الإيقونة دالة ينبغي أن يتوفر ضرب من التواضع الثقافي على جملة من الأسس التي تعرف الموضوع الذي نريد التعرف عليه من خلال الأيقونة، وأن يقع وفقاً لذلك ضبط سمات التعرف أي لا يمكن أن نبدع إيقونة في موضوع نجهله، ثم يقع تواضع ثانٍ ذو صبغة خطية يصل بين جملة من الرسوم الخطية وبعض خصائص الموضوع المميزة له، ويقتضي بحسب إيكو في تلك المواضعة أن تؤسس لكيفية التوافق المدرك بين سمات التعرف والسمات الخطية، والإيقونة أعقد من العلامة والرمز لأنها تحويل بحسب إيكو في حين إنها إعادة بناء بحسب مجموعة مو... والمحصلة التي تجعل الإيقونة أقرب من العلامة والرمز إلى الإيديولوجيا أنها تلامس الموضوع المتمثل أكثر مما تلامس العلاقة بين ذلك الموضوع والدليل، ثم إن مفهوم الإيقونة الحديث أصبح يقوم على التعرف أكثر من قيامه على فكرة المشابهة القديمة (انظر: سلوى النجار: رحلة الدليل من اللسانيات إلى السيمولوجيا، صفقاس، 2006، ص ص 102 -116 والصورة هي محملة بإيديولوجيا ما حتى وإن كانت من الإيديولوجيات البدائية الأسطورية، وهذا ما لاحظه محللو الفن الباليوليتيكي (العصر الحجري) من خلال تحليل الرسومات وطريقة تنظيم الصور على جدران الكهف حيث لاحظو أن الأمر يتعلق بشيء غير التمثيل العرضي لحيوانات الصيد. ثم إن المشترك الإنساني على فرضية تماثله هو مشترك لا يخلو من الإيديولوجي، وكما يقول غي غويتيي: «لا يمكن تصور للإرساليات البصرية الثابتة إلا في إطار نسق ثقافي أشمل» (غي غوتيي: ترجمة سعيد بنكراد، 2012، ص 36)، علاوة على ذلك فإن جانب تلقي الصورة هو جانب مهم أغفله الجزار علماً أن ما يراه ملاحظ ما أي ما يشعر به من تجربة بصرية عند رؤيته لشيء ما يتوقف في جانب منه على تجربته الماضيه، ومعارفه وانتظاراته كما يقول الآن شالمرز (انظر: الآن شالمرز: نظريات العلم: تجمة: الحسن سحبان وفؤاد الصفا، الدار البيضاء، دار توبقال، ص 36)؛ ومن ثم لا فرار من الحتمية الإيديولوجية التي يبدو أن الجزار يؤمن بها إيماناً قوياً. وفي نظرنا أن مهمة الإبستمولوجيا إضافة إلى أنها فكر نقدي للعلوم هو تخليص العلم من الإيديولوجيا ليس لمصلحة إيديولوجيا بديلة بل لمصلحة العلم ذاته، أما الانطلاق من إخضاع الابستمولوجيا للإشكالية التراثية للفكر العربي المعاصر ولسؤال الهوية في مقابل الآخر، فمما سيؤدي إلى استعمال الابستمولوجيا في خدمة أهداف نظرية وإيديولوجية بعيدة عن أصلها، وتصبح قيمتها لدينا فيما تمكننا منه من نتائج نرتجيها مسبقاً في الميدان الذي تطبق فيه (انظر: عبد السلام بن عبد العالي: 2001، ص 18). وقبل الإشارة إلى حال العلم مع الإيديولوجيا أشير إلى أن الاستعمال الاصطلاحي في اللغة العربية للمصطلحات الغربية في العلوم المختلفة وقع في المأزق الإيديولوجي من بين المآزق التي وقع فيها، وهنالك جملة من المآزق التي وقعت فيها حركة المصطلحات وخصوصاً المصطلحات الحديثة أولاً من خلال علاقتها بالمصطلح التراثي القديم، وثانياً من خلال الطريقة التي يجري بها توظيف المصطلح أو الطريقة التي تتم به إحالة على المفاهيم والمصطلحات في نظريات غربية، إذ هي طريقة استلابية تحاول أن تحشو العلم بإحالات إلى أعلام غربيين وإلى أفكار وإلى نصوص عادية ولاتحاول أن تكون دقيقة في اختيار المصطلح المفهومي المتميز لتوظيفه فقط، وثالثاً من خلال شبه انعدام القدرة على إنتاج المصطلحات الحية المرتبطة بأجهزة مفاهيمية ونظرية ذات صرامة علمية، ورابعاً من خلال مرورها بالأفق الإيديولوجي الغربي حتى وإن كانت مصطلحات علوم بحتة ولو بما يملكه اللفظ من غرابة لغوية ترده إلى أصول غير العربية سواء أقُبل دخيلاً أم عُرّب أم تُرجم. وهنا يبدو الصراع صراعاً إيديولوجياً وخوفاً على استمرار التبعية أو ذوبان الهوية في الآخر، ومثل هذا الصراع إذا استمر سيصبح أزمة إيديولوجية مزمنة لن يتمكن معها العرب من الإنتاج العلمي وسيظلون في لهاث إيديولوجي لا يتوقف. والحل في نظرنا هو الالتفات إلى التخصص الدقيق وإنتاج النظرية العلمية أو إنتاج المقولة الفلسفية دون غضاضة من البناء على المصطلح الغربي، وتناسي الإيديولوجيا العالقة به، ويكون التناسي حالة إبستمولوجية وليس فعلاً فردياً هذا التناسي مهم للتجاوز الإيديولوجي، وللبدء في بناء العلم والمصطلح الجديد، ولكن للأسف بالنظر إلى الوضع التكاملي للبناء الحضاري في العصر الحديث يبدو أن الخلل الإيديولوجي العام الذي تعيشه الحضارة العربية والإسلامية والاستلاب والضعف السياسي إضافة إلى طغيان النظرة القاصرة على الأداء الحضاري المتمثّل في تركز القرار في الغالب في أياد جاهلة حتى بالوضع الإيديولوجي وبالوضع الحضاري وبالوضع العلمي الذي تعيش في إطاره واهتمامها فقط باللعب بالإيديولوجيا التجهيلية أو الإيديولوجيا القاتلة للحفاظ على التسلط والاستبداد كل ذلك زاد الطين بلات جمة.. وفي نظري أنه إذا لم يُسلَّم بما ندعوه (التجاور الإيديولوجي والتمازج الإيديولوجي) وهما حالتان لا فكاك منهما حتى في حالات الإيديولوجيات المتنافسة أو المتصارعة أو الإيديولوجيات التي تحمل أثقالاً تأريخية وحضارية هائلة، ويكون التسليم بالتجاور الإيديولوجي في ما قد تلفظه بعض مقتضيات الهوية أو بالتمازج الإيديولوجي فيما تقبله تلك المقتضيات هو تحصيل حاصل، ولكن إذا تحولت الهوية إلى إيديولوجيا ثابتة فإن ما يحدث هو إما الرفض المطلق للآخر أو البقاء في حقل إيديولوجي ذي رؤوس متنافرة لا يمكن أن تلتقي مما يؤدي إلى حالة من الدراسات والأوهام والصراعات والفلسفات التي تأخذ جهداً في فهم الأنا والآخر وفي جدليات من قبيل الاستلاب والتقوقع ... إلخ، بدلاً من إنتاج الفلسفة الحديثة وإنتاج العلم الحديث. ** ** ** (1) الإيديولوجيم مصطلح من صياغة جوليا كريستفيا ولم يشر الجزار إلى ذلك!