توصلت مجموعة الدول خمسة زائد واحد إلى اتفاق مع إيران حول برنامجها النووي؛ ليصبح تحت رقابة دولية مشددة، تمنع - بحسب ما صدر من تأكيدات دولية - إمكانية عسكرة هذا البرنامج المثير للجدل لسنوات طويلة. ويؤكد ذلك شروط الاتفاق التي حولت البرنامج ليكون تحت رقابة دولية صارمة، أي أنه أصبح شفافاً، ويخضع للتفتيش الدولي. وكذلك طبيعة الشروط التي تقلص نسبة التخصيب إلى 3.7 في المئة من مستوياتها الحالية عند 20 في المئة، وكذلك تقليص حجم اليورانيوم المخصب من 10 آلاف كيلو إلى 300 كيلو عبر تصدير ما نسبته 98 في المئة للخارج، وكذلك خفض عدد أجهزة الطرد المركزي من 19 ألفاً إلى 6 آلاف جهاز، مقابل رفع الحصار الاقتصادي بتدرج بحسب مدى التزام إيران بالشروط كافة التي تتضمن العديد من التفاصيل التي تصل إلى حد الرقابة على أوجه صرف عائدات النفط والسلع المصدرة لإيران التي تصنف بمزدوجة الاستخدام، أي أن يمنع تصدير ما يمكن أن يستخدم سواء لبرنامجها النووي أو العسكري. واعتبر مراقبون وخبراء أن هذه الاتفاقية تعد الأقسى عالمياً وغير المسبوقة بتاريخ الاتفاقيات التي أرضخت أنظمة كثيرة في العالم ذات توجه عدواني، بل قفز البعض لتسميته بأنه اتفاق وصاية على إيران. بداية، لا بد أن نذكر بأنه يوجد نحو 47 دولة لديها برامج نووية سلمية، وتصل نسبة تخصيب اليورانيوم لديها لخمسة في المئة، أي أن إيران ستخصب بنسبة أقل منها. أما عن تكاليف برنامج إيران فقد ذكر تقرير أعده «معهد كارنيغي للسلام الدولي واتحاد العلماء الأمريكيين»، ومقرهما في واشنطن، أن تكلفة البرنامج بلغت نحو مائة مليار دولار، أي أن هذه المبالغ عملياً تبخر جلها بعد الاتفاقية التي ستفككه وتحيله لبرنامج محدود النتائج والقدرات، بل ذهب التقرير إلى أن إيران فقدت فرصة تطوير قدراتها بالطاقة الكهربائية، سواء من حيث زيادة إنتاجها التي تبلغ حالياً نحو 34 ألف ميغاوات، أو تحسين جودة شبكاتها؛ ما سيشكل عبئاً مستقبلياً كبيراً عليها عند التوسع في التوليد التقليدي للطاقة. فما الذي دعا إيران للقبول بالاتفاقية رغم ما ستسببه من خسائر لا تقبل الشك بها؟ منذ بداية العقوبات على إيران عبر عقود أتت بعد قيام الثورة فيها عام 1979م تحول الاقتصاد الإيراني إلى ما يصنف بأنه «اقتصاد أزمة»؛ إذ تتولى الحكومة تسيير كافة مفاصل الاقتصاد، وتتحكم بها عبر منظومة من الشركات الحكومية والقرارات المركزية، مع تباين كبير في الأداء الاقتصادي وعدم استقرار ونفور كبير عن الاستثمار فيه لعدم توافر الضمانات لتحقيق الأمان لرؤوس الأموال المحلية والأجنبية. وما يوضح حجم المشكلة في الاقتصاد الإيراني الكثير من المؤشرات والأرقام التي تظهر ضعفه؛ فمعدلات البطالة تصل إلى 16 في المئة، حسب ما تعلنه الجهات الرسمية، بينما تشير تقارير إلى أن الأرقام الحقيقية تصل إلى نحو 34 في المئة؛ إذ يبرز الكثير من الأرقام التي تتحدث عن مشتغلين غير مرتبطين بأي وظيفة، أي عامل باليومية، الذي تتزايد نسبتهم سنوياً بمعدل 3.5 في المئة سنوياً، وخصوصاً أن هناك أرقاماً تتحدث عن تعطل بنحو 50 في المئة للقوى العاملة في إيران، أي أنها لا تملك وظيفة مستقرة. أما نسبة التضخم فقبل عامين وصلت إلى 45 في المئة، وبعد تولي الرئيس حسن روحاني الحكم انخفضت إلى 30 في المئة تقريباً، لكن ليس بسبب إصلاحات جوهرية بل عبر تشدد بالسياسات النقدية، وتقليص حجم الائتمان، أي أن ذلك تسبب بتراجع في النمو الاقتصادي، بل خلال السنوات الأربع الماضية حدث انكماش اقتصادي ضاعف من مشاكل الركود؛ ليصبح الركود التضخمي سمة بارزة في الاقتصاد. ورغم أن الحكومة تقول إن عائدات النفط لا تشكل سوى نحو 50 في المئة من الدخل الحكومي لكن النصف الآخر يأتي عبر الضرائب التي ترهق المواطن مع تراجع دخله نتيجة العقوبات، بينما في الحقيقة إن النفط والغاز يشكلان 80 في المئة من صادرات إيران، أي أنها عملياً دولة تعتمد على مصدر وحيد تقريباً في الصادرات وتأثير الإيرادات. وفي جانب آخر، يظهر مدى صعوبة الحلول الاقتصادية مستقبلاً؛ فإن تفاصيل طبيعة تملك وإدارة الدولة للاقتصاد تعد تحدياً ضخماً، سيقف عائقاً أمام الإصلاحات الاقتصادية. فبحسب تقرير أعدته صحيفة الجارديان الشهيرة عام 2010م قالت فيه إن الحرس الثوري يسيطر على نسبة قدرت بما بين 35 و70 في المئة من حجم اقتصاد إيران عبر تملكه لشركات ومؤسسات تمويل مؤثرة بكل مفاصل الأجهزة الحكومية، بل إنه يدير مطارات مدنية بمدن كبرى؛ ما سيصعب من إحداث أي إصلاحات اقتصادية تنوي حكومة روحاني القيام بها، بل إن الحكومة تصل تدخلاتها إلى مستويات كبيرة، منها تقييد الأسعار؛ ما يؤثر سلباً على قطاع الزراعة بصفة عامة، كمثال على مدى مركزية إدارة الاقتصاد التي تأتي بسبب أن طبيعة الاقتصاد بني على الأزمات فقط، وخصوصاً أن الخسائر الاقتصادية باعتراف نُقل على لسان هاشمي رفسنجاني بلغت نحو 800 مليار دولار في فترة حكم الرئيس أحمدي نجاد، أي في أقل من عشرة أعوام مضت، بينما تشير الكثير من التقارير حول حاجة إيران إلى ما يقارب الألف مليار دولار لبناء اقتصادها، منها نحو 100 مليار دولار فقط لتأهيل قطاع الغاز الذي تعد رابع دولة في العالم من حيث احتياطياته، فيما سيحتاج قطاع النفط لمثل هذا الرقم أو أكثر لتأهيله وزيادة الإنتاج، بخلاف مئات المليارات التي تحتاج إليها للبنية التحتية التي تهالكت بسبب العقوبات. فمبلغ المائة مليار دولار الذي تطمح إيران إلى أن يفرج عنه لا يمثل سوى 30 في المئة من حجم اعتمادات ميزانيتها السنوية؛ ما يعني أنه لن يشكل فارقاً كبيراً أمام احتياجات إيران الحقيقية للنهوض باقتصادها؛ فهو لن يمثل سوى 10 في المئة تقريباً لإعادة تأهيل بنيتها التحتية وتطوير قطاعات النفط والغاز، بخلاف أن هذه المبالغ سيفرج عنها بالتدريج، أي قد تأخذ فترات طويلة نسبياً قياساً بمدى حاجة إيران للأموال. وعلى صعيد الناتج المحلي ومدى تأثير الميزانية العامة فيه فقد بلغ بحسب البنك الدولي 415 مليار دولار بالقيمة الاسمية، بينما تم اعتماد موازنة للعام ذاته عند 319 مليار دولار، أي أن الميزانية تشكل نحو 77 في المئة؛ ما يشير إلى تأثير الإنفاق الحكومي الكبير على الناتج المحلي، ويدحض أي ادعاءات تنفي ذلك. ورغم أن مديونية إيران الخارجية لا تعد كبيرة، أو أنها غير معروفة، إلا ان الدين الداخلي يبدو كبيراً؛ ما اضطر قيام الحكومة في السنوات الماضية بتفعيل مادة دستورية، تسمح بخصخصة الشركات العامة؛ إذ بيع نحو 830 شركة من أصل 950 شركة حكومية، لكن الحقيقة تكمن في أن بيعها لم يكن سوى عملية سداد ديون؛ ما أدى لفشل وُصف بالذريع من قِبل مسؤولين حكوميين وبرلمانيين؛ إذ لم يؤدِّ للوصول للهدف الذي نص عليه نظام الخصخصة المدعوم دستورياً. فالمعلومات التي توضح الحقائق حول اقتصاد إيران، ورغم أن هناك تشكيكاً فعلياً بمدى صحة الأرقام التي تراها الحكومة جيدة رغم قسوتها فعلياً بمقاييس المعايير الاقتصادية، تعكسها الحالة الواقعية للداخل الإيراني، التي يتم العمل على تعتيمها كثيراً من قِبل حكوماتها المتعاقبة، لكن تراجع إنتاج النفط الذي هبط من 6 ملايين برميل في عهد الشاه إلى ما يقارب 3 ملايين برميل حالياً يُظهر مدى صعوبة الأزمة الإيرانية اقتصادياً، ويبيّن بشكل قاطع أن سبب رضوخها للاتفاقية التي بدأ التفاوض عليها منذ عشرة أعوام، وكان بالإمكان الوصول لأفضل منها في وقت سابق قبل سنوات، هو اقتصادي له انعكاسات سلبية خطيرة على استقرارها الاجتماعي، الذي يبدو أن تماسكه هش، ويبدو أقرب للانفجار إذا لم تتخذ خطوات جادة لإظهار حسن النية والعودة للمجتمع الدولي بعيداً عن طموحاتها التوسعية وتدخلاتها التخريبية في الدول العربية الواضحة والغنية عن الشرح، سواء بالعراق أو سوريا أو اليمن ولبنان. تجتهد الكثير من التحليلات في تفسير سبب الاتفاقية، وهل هو تحول أمريكي وغربي باتجاه إيران؟ إلا أن المعطيات التي تبسط الأسباب الجوهرية مثبتة وبالأرقام بأن إيران لم ترضخ إلا بسبب تأثير العقوبات الاقتصادية التي لا تزال إلا فيما يتعلق بالبرنامج النووي، بينما ستبقى العقوبات المتعلقة باتهامات دعم الإرهاب كما أن ما سيُزال سيكون تدريجياً وتحت رقابة صارمة، وسيتطلب إعادة بناء اقتصاد إيران القيام بإصلاحات ضخمة ستولد أزمات كثيرة داخلياً، ولن يكون الإقبال على الاستثمار النوعي والمستقر فيها سهلاً؛ فهناك من سيخشى عودة العقوبات إذا أخلت إيران بالتزاماتها بخلاف الأنظمة التي لن يكون من السهل إصلاحها، وسيبقى المستثمر حذراً، وخصوصاً الأجنبي، للدخول إلى السوق الإيراني إلا في تجارة السلع التي ستغرق السوق الإيراني في البداية، ولن تُحدث أثراً كبيراً في مجال توفير فرص العمل بل قد ترتفع معدلات التضخم بسبب ضعف الاقتصاد وتردي العملة التي يصل سعر صرفها إلى 30 ألف ريال إيراني لكل دولار حالياً. ومعروف أن الإصلاحات لاقتصاد إيران ليست بالأمر السهل، وسينتج منها متاعب كبيرة، سترهق الإيرانيين نظير تردي صرف العملة، وارتفاع البطالة، وتراجع سعر النفط، والحاجة لمئات المليارات التي لن تأتي إلا عبر قروض واستثمارات أجنبية، سيكون لها شروط صعبة، لكنها ستؤدي إلى بداية سيطرة أكثر على مفاصل الاقتصاد، تُضاف لسلة الشروط التي نص عليها الاتفاق السياسي حول البرنامج النووي.