ودعت العاصمة الرياض بل المملكة من أقصاها إلى أقصاها قبل أيام عدة العمّ والوالد الكبير عِلماً وقدراً ومكانة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالله آل الشيخ (تغمده الله بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه)، بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء، مليئة بالمواقف النبيلة والمنجزات العظيمة. وُلد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالله بن عبدالرحمن بن علي بن محمد بن عبدالله بن الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - حيث ولد في منفوحة بالرياض في عام 1346 هجرياً، ونشأ بعد وفاة والده - رحمهما الله - يتيماً، وعاش مع والدته حتى توفيت عام 1363 هجرياً. بدأ دراسته في الكتاتيب عند الشيخَين ناصر بن مفيريج وصالح بن مصيبيح - رحمهما الله -. ولنبوغه منذ صغره ورغبته في الدراسة انتظم فيها عند والدنا سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وكذلك أخوه الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم آل الشيخ - رحمهما الله -. وفي سن الثامنة عشرة عمل في الفلاحة ورعي الأغنام مع أهله وأخواله. وفي عام 1363 هجرياً طلب منه الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - الحجّ معه، وطلب من والدته السماح له برفقة الشيخ لأداء الفريضة، وسمحت له، وتوفاها الله بعد ذلك - رحمها الله -. ولعدم وجود مدارس نظامية ولا معاهد علمية، ووجود الرغبة لديه وحرصه على الدراسة، شاء الله أن يفتح له باب العلم والمعرفة، فاتجه لدار التوحيد بالطائف بصحبة ابن عمّه الشيخ عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل الشيخ، وواصل دراسته، وبعدها حصل على الشهادة الابتدائية وعمره 19 عاماً، ثم الكفاءة والثانوية، بعدها التحق بكلية الشريعة واللغة العربية في مكةالمكرمة، وأنهى دراسته عام 1375 هجرياً، وكان يمارس وظيفة موسمية بميناء جدة البحري للتفتيش على الكتب الممنوعة تابعاً للتفتيش برئاسة القضاء بمكةالمكرمة، التي تمسّكت به ليبقى مفتشاً على المحاكم. وجاء دور التغيير حيث طلبته وزارة المعارف، وكان وزيرها حينذاك الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - وتم تعيينه مديراً لتعليم الطائف، وكانت معتمدية معارف يرأسها الشيخ خليل كتبخانة، وأرسلت معه الوزارة المفتش عبدالرحيم صديق ليسلمه العمل من خليل، وكان مكتباً متواضعاً، ولم يكن فيه سوى ثلاثة موظفين وطبيب، وكان بنصف منزل للشيخ خليل. واستلم فقيدنا العمل، وواصل ليل نهار. ولتشجيعه ساهمت الوزارة باستئجار مبنى بدلاً من المبنى الطيني المتهالك، وتدريجيّاً زاد عدد الموظفين، وتم فتح مدارس جديدة وتأثيث المدارس القديمة، وقام كعادته بجولاته المكوكية للتأكد من عدم وجود مدارس بها لنشر العلم والتعليم. وبعد ثلاث سنوات، وبعد أن اطمأن على سير العمل، طلب النّقل، وضمن حركة الوزارة للنقل كانت محطته الثانية بالجرشي. وبالرغم من صعوبة التنقل، وعدم وجوطرق خلال الجولات، فقد كانت الوسيلة المشي أو الحمير، ومع هذا تمكن من زيارة قراها وافتتاح المدارس بها. وفي عام 1383 هجرياً انتقلت الإدارات الحكومية من بالجرشي للباحة، ونظراً لظروفها المناخية التي لم تتناسب معه وأسرته طلب نقله من معالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ وزير المعارف - رحمه الله -، وبعد إصرار ومحاولات صدر قرار نقله إلى منطقة أبها، التي استلم إدارتها في وقت صعب، كانت تمرّ به تلك المرحلة. ومع هذا قام بترتيب الإدارة الجديدة بمساعدة الشيخ محمد الصالح الفواز - رحمه الله - الذي طلب نقله من مدير للمعهد العلمي بأبها للتعليم إلى مساعد لمدير التعليم. وكانت بيشة تتبع لمنطقة عسير، فكان الفقيد يداوم فيها يومين، وبقية الأسبوع في منطقة أبها، وكان يغتنم الفرصة في ذهابه وإيابه للتعرف على المناطق ودراسة احتياجاتها من مدارس وغيرها. وفي عام 1385 هجرياً تمّ فصل بيشة عن أبها، فطلب النقل لها، وتمّ له ذلك، وبعد مسيرة تعليمية طويلة ورحلة عمر نراها شاقّة، ومع هذا كان سعيداً بها، وزاد من هذا، ولتكون خاتمته مسْكاً، ولمحبته لأهالي بيشة وطناً وأرضاً، التي تعلّق بها، ووجدها المكان المناسب للإقامة بها وعائلته بقية حياته. ونظراً لمكانته ومقامه وعلمه، وللاستفادة من خبرته وتجربته بعد تقاعده من سلك التعليم، طلب منه رفيق دربه ومسيرته في التعليم معالي الأستاذ عبدالوهاب عبدالواسع - رحمه الله - الذي كان وزيراً للحج والأوقاف العمل معه في الوزارة، وأن يتمّ تعيينه مديراً لجهاز الأوقاف ببيشة، وكان له ذلك -رحمه الله-. ولخبرته الإدارية العالية شهدت خلال تلك الفترة أوقاف بيشة نقلةً نوعية مميزة في هذا المجال. وبعد أن وجد نفسه أدّى، وبعد عمر مديد، وكما قال - رحمه الله - حان الوقت للراحة من العمل الحكومي وتسليم الأمانة والتقاعد للتفرغ والاتجاه للدعوة إلى الله. وكانت له في هذا المجال جولات وصولات دعوية حول العالم، لم تنقطع طوال حياته، وحتى في مراحل مرضه الأخير كان يواصل الترحال برًّا وجوًّا وبحرًا في جولات دعوية لم تنقطع، ينثر من خلالها ما وهبه الله من علمٍ، استفاد منه الكثير في أنحاء المعمورة، قبل أن يأخذ منه الكبر والمرض مأخذه. والمغفور له شيخنا العالم أبو صلاح الدين، الذي تشرفت بالقرب منه منذ طفولتي - رحمه الله -، لي معه ذكريات ومواقف عديدة؛ تحتاج لصفحات وصفحات، أتذكر منها:- عندما كان يقوم بزيارات دائمة لوالدي الشيخ محمد بن عبدالوهاب آل الشيخ - أطال الله في عمره، وأمدّه بصحته وعافيته - الذي انتقل من مكةالمكرمة إلى منطقة عسير (أبها)، وذلك في بداية السّبعينيات الهجرية. وكانت أبها في ذلك الحين تفتقر لكل مقوّمات الحياة، وكان القادم إليها يعتبر موضع الحفاوة والتكريم والتقدير، وكان - رحمه الله - حريصاً على التواصل مع الوالد وأهالي المنطقة الذين لم يتوقعوا أنه سيكون مستقبلاً مديراً للتعليم بها. ومن باب الذكريات عنه - رحمه الله - وبما أنه قادم من الطائف، التي كانت قريبة من مكةالمكرمة، وتتوافر بها بعض الكماليات والأغذية والهدايا، التي لم تكن متوافرة في أبها، كان يحمّل وسيلة نقله بكل ما لذَّ وطاب من فواكه ومعلبات وأشياءً نادرة، ما زلت أحسّ بطعمها وقيمتها حتى اليوم، إضافة إلى أنه كان معروفاً عنه كرمه وسخاؤه؛ فكانت زياراته لنا تعتبر فرحة وسعادة لحضوره المتميّز، الذي يستمر أياماً عدة مع مجموعة من الرجال المختارين الذين كانوا يرافقونه خلال رحلاته وجولاته البرّية؛ إذ كان - وكما هو معروف عنه حتى قبل وفاته بأشهر عدة بأنه رجل رحّالة - لا يستقرّ يوماً بمكان، ويعرف مناطق المملكة شبراً شبراً، خاصة المنطقة الجنوبية بشراً وحجراً، ويعرف أسماءها وقبائلها وأعيانها، ويقوم بزيارتهم في أماكنهم، ويجزل العطاء للمحتاجين فيها، ويعمر المساجد بها، ويدخل كل بيت، ويزور كل مريض، ويواسي أهلها. وأتذكّر في منتصف الثمانينيات الهجرية أن رافقته من أبها إلى بيشة، ومعنا رفيقا رحلة نشاما، هما الأخوان عبدالله الشقحاء وعلي بن شائع - رحمهما الله -، وكانت وجهتنا الرياض، وهي الرحلة الأولى لي خارج أبها. واتجهنا عن طريق وادي الدواسر، وقطعنا مسافات عبر براري ورمال، أفقدتنا الرؤية، ولم نعرف أين نحن، وكنت أعيش اللحظات خوفاً من هذا المصير، خاصة بعد أن أوشك وقود السيارة الجيب على الانتهاء، وقطع رفقاء الرحلة مسافات مشياً على الأقدام؛ لعلّ وعسى يسعفهما الحظّ برؤية قرية أو عابر طريق، وعندما لم يجدا، وتوكلّنا على الله إلى أن سخّر الله لنا راعي إبل يرعى إبله في أرض قاحلة جدباء!! وسألناه عن أقرب قرية، فقال «لن أخبركم قبل أن تخبروني في طريقكم (مطر)؟»!! وكان ابن شائع سريع البديهة، ورجل نكتة، فأجاب «وش أمطار إلا سيول»!! هدفه إنقاذنا من جوع لحق بنا، وسيارتنا على وشك الوقوف، وكان الرد «رمية حصاة، تعينون قدامكم قرية الحمر». وغادَرَنَا يبحث عن المطر (وأعتقد بعد طول السنين أنها مجاورة للسليل). وفعلاً وصلناها، ووجدنا بها دكاناً صغيراً، وعندما رغبنا في الشراء قال البائع «روحوا صلّوا وعيّنوا خير»! ولم نجد وقوداً فيما قالوا إنها محطة، ولم نجد سوى برميل فارغ؛ ما زاد من الإحباط، وقلت لابن شائع: هذه عقوبة بعد أن أوهمت راعي الإبل بأن هناك أمطاراً وسيولاً!! ومع هذا كان الشيخ ما شاء لله غير عابئ بما حصل، وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة شاهدنا سيارة وانيت، ويستظل تحت شجرة طلح مجموعة نارها شابّة، وعند وقوفنا لجسّ النبض إذا بنا نلتقي بعد هذا العناء أحد أبناء العمّ من أسرتنا، يعمل مفتشاً إدارياً بوزارة المعارف. يا للمفاجأة السارة. ووجدنا كل مطلوبنا عنده من عشاء جاهز وبرميل وقود في سيارتهم.. والقصة تطول، ولكن العبرة في ذكرها قوّة وإرادة الفقيد، وجلده وصبره أمام مثل هذا الموقف طوال حياتي. والشيخ عبدالعزيز (أبو صلاح) نادرٌ في الأسرة، بل أجْزم بأنه لا مثيل له أبداً. كان مضرب المثل، وحديث الجميع، وفيًّا لها منذ أن تمّ تأسيس أول اجتماع سنوي للأسرة يُقام أول يوم في عيد الفطر المبارك بالرياض. وبالرغم من مرضه وعجزه فإنه - والشهادة لله - لم يتغيَّب عن هذا الاجتماع الأسري حتى لو صادف أنه خارج المملكة لعلاج أو رحلة دعوية، إلا أنه يقطعها، ويحضر. كان نادراً في وفائه وتواصله مع القريب والبعيد، يلبّي كل الدعوات، ويفاجئ الكبير والصغير بزيارة وفاء وصلة لذوي القربى بابتسامة عريضة، لم أفقدها منه طوال حياته إلا عند وفاة أخته لأمّه الأخت الجليلة طرفة السيف والدة أخينا عبدالله الرميزان، التي كانت بالنسبة له الأمّ والأخت والصديقة، بل كانت كل شيء في حياته - رحمهما الله جميعاً، وأسكنهما فسيح جناته -. لحق بها وهو يتوجّع ويتألم لفقدها؛ فكم كانت له وبه الرؤومة الرحيمة بعد الله، وكانت له الهواء الذي يستنشق بها حياته، وكانت له مصدر قوّة وعطاء ووفاء.. وهذه سُنّة الله في خلقه. رحل الشيخ عبدالعزيز، وخلَّف إرثاً كبيراً من القيم وحسن التعامل والوفاء. رحل شيخنا العمّ أبو صلاح بعد أن ترك محبّة وذكريات ناصعة البياض لدى أسرته وعارفيه وكل من تعامل معه في كل مناصبه ومسيرته، ومن عرف شخصيته المتواضعة بقوّة لا بضعف، بل بثقة الرجال الأفذاذ.. وقالت عنه صحيفة بيشة نيوز: «إنه كان محباً لبيشة وأهلها إلى درجة بقائه فيها بعد تقاعده؛ إذ وجد في أهلها من الوفاء والعرفان ما جعل الرحيل عليه صعباً. ولم يغادرها إلا بعد أن اشتد به المرض، قبل وفاته بشهرين تقريباً. وأهل بيشة مع إيمانهم بقضاء الله وقدره، رغم حزنهم وألمهم لرحيله، إلا أنهم يرون في ابنيه صلاح وحمود امتداداً لذلك الرمز التربوي المميز، ولاسيما أنهما ركبا السفينة ذاتها، سفينة التربية والتعليم وخدمة الأجيال». والعزاء موصول لأخيه العمّ الشيخ عبدالله بن عبدالمحسن آل الشيخ وللأسرة الكريمة كافة، التي ستفتقده خلال اجتماعها السنوي القادم، بل كل اجتماعاتها. نعم، سوف تفتقد علماً بارزاً من أعلامها حضوراً ووفاء.. وأرجو أن لا ننساه في الاجتماع القادم وتكريمه من خلال أبنائه، وأن يكونوا بحضور خاص وتكريم يليق به. وكم أتمنى بل أطالب أهل بيشة الكرام بقيادة المحافظ الشّهم الأخ محمد بن سعود المتحمي بتسمية أحد الشوارع المهمة أو إحدى المدارس الحكومية باسم الفقيد - رحمه الله وغفر لنا وله ولأموات المسلمين كافة -. إنهما مطلبان، أرى أنهما أقلّ القليل لما قدمه للمحافظة بمحبّة وتقدير لها. وأهاليها الأمل بهم بعد الله كبير؛ فسمتهم الوفاء وتقدير الرجال. والعزاء لنا جميعاً، خاصة لابنيه د. صلاح الدين وحمود وبناته. والعزاء لنا جميعاً. وأتمنى منهما أن يستمرا على نهجه، وأن يجمعا ما كتبه الفقيد كمؤرخ، وأن نرى مؤلفاً يحمل اسمه تخليداً لذكراه. وتحية تقدير كما تعلمنا منه الوفاء لكل من تجشّم عناء السفر للرياض من مناطق عديدة للصلاة عليه وتقديم العزاء لأخيه وأبنائه وأسرته. شكراً من القلب لمن واسى حضورياً وهاتفياً.. مشاعر محبّتكم كانت لنا مبلغ سعادة. ودعاء وتقدير وشكر خاص لأديب حريملاء وشاعرها ورفيق دراسة الفقيد بدار التوحيد الشيخ عبدالعزيز الخريّف لوفائه وسؤاله وحضوره ومشاركة الأسرة صلاة وعزاءً، والدعاء له بطول العمر والصحة والعافية. رحم الله الشيخ عبدالعزيز رحمة الأبرار، وأسكنه فسيح الجنان، وجزاه عما قدم خير الجزاء، وألهم آله وذويه الصبر والسلوان. إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ . خاتمة - عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب آل الشيخ